هندسات مصرفية جديدة لحقبة المخاطر المرتفعة
من يزر وزير المالية محمد الصفدي يسمع كلاما مُطمئناً في شأن وضع المالية العامة، وكلاماً مُشكّكاً بقدرات الاقتصاد الوطني الذي يتراجع، وهنا مكمن الخطر. من يزور حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يسمع كلاما مُطمئناً في شأن وضع اليرة، وكلاماً مشككاً في ارتفاع مخاطر تداعيات الأزمات الاقليمية على الاقتصاد اللبناني. من يزور رئيس جمعية المصارف، فرانسوا باسيل يسمع كلاماً مطمئناً في شأن الوضع المصرفي بشكل عام، وكلاماً مُشكّكاً في وضع المالية العامة التي تعاني من عجز ناتج عن زيادة الانفاق وغياب الرقابة واستشراء الفساد.
وقد تكون هناك شكوك وتطمينات اضافية لدى افرقاء آخرين. لو تمّ جمع كل هذه المواقف، لأمكن الخروج بنتيجة مفادها ان الاقتصاد والمالية العامة وحتى المصارف، كلها في دائرة الضعف، ولو بنسب متفاوتة. لكن ما هو أكيد، ان القطاع المصرفي لا يزال الاقوى، ولكنه يواجه احتمالات المزيد من الضغوطات التي سيكون مطلوباً منه معالجة تداعياتها المحتملة.
في هذا الاطار، تسعى المصارف حاليا الى اعطاء الاولوية للأمور التالية:
اولا- الضغط على ما تبقى من الدولة لحثها على تحسين وضع المالية العامة لجهة منع تفاقم العجز، وقطع الطريق على احتمالات خفض التصنيف الائتماني للديون الخارجية اللبنانية، بما يعني خفض تصنيف المصارف مجددا.
وهذا الأمر يشكل هاجساً للمصارف رغم محاولات التقليل من أهمية ما أقدمت عليه وكالة "ستاندردز اند بورز"، لجهة خفض تصنيف لبنان ومصارفه الى (-B). وتريد المصارف تحاشي الوصول الى تصنيف (C) الذي يعني ان العالم الخارجي سيتعامل مع الدولة اللبنانية، واستطراداً مع مصارفها، على اساس أنها قد تتعرّض للافلاس.
في هذا السياق، جاءت الزيارة التي قام بها وفد جمعية المصارف الى رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي في الفترة الأخيرة. لكن الاشكالية التي كانت ولا تزال قائمة، تكمن في محدودية الوسائل المتاحة للمصارف للضغط طالما، انها مُرغمة واقعياً على الدفاع عن الدولة ومنع انهيار ماليتها العامة، لأنها على مركب واحد معها، وبالتالي، لا تستطيع ان تصل الى حد وقف التمويل، مهما اشتدت الأزمة وتفاقمت. بالاضافة طبعاً الى أن سندات الدين العام تبقى الملاذ الأهم لتحاشي تكديس المزيد من السيولة العاجزة عن توظيفها، والتي تشكل عبئا على البنوك، وعلى حجم أرباحها.
ثانيا – رسم هندسات مالية جديدة، لهذه المرحلة الاستثنائية، تستند الى واقع أن ليس في الافق ما يدعو الى التفاؤل في احتمال عودة دول المنطقة الى طبيعتها في وقت قريب، وبالتالي، عدم المراهنة على فروع الخارج في تحسين الوضع. تشمل هذه الهندسات في جزء منها ما يشهده البلد منذ فترة من منتجات مصرفية جديدة مبتكرة تقوم على مبدأ تشجيع المستهلك على الانفاق الاضافي، في محاولة للافادة قدر الامكان من تحريك السيولة في السوق.
وباتت المصارف تعتمد اكثر فأكثر على صيرفة التجزئة وعلى المستهلك الصغير في تكوين نسب اضافية من الارباح. لكن الجديد في هذا الموضوع، ان المجتمع الدولي، سيما الدول الاوروبية، دخلت على خط حماية المستهلك، وباتت تنسّق مع جمعيات محلية، ومع السلطات النقدية الرسمية من اجل تحصين حقوق المستهلك، بما يعني ان بعض العمولات التي تتقاضاها المصارف من المستهلك، قد تتعرّض للتقليص او المنع حسب المعيار العالمي لحقوق المستهلك.
ثالثا – تلبية المطالب الأميركية الجديدة القديمة، والتي رسم عناوينها العريضة مساعد وزارة الخزانة الأميركية لشؤون تمويل الارهاب دانيال غليزر خلال تواجده في بيروت. ومن ضمنها خفض اضافي في مفهوم السرية المصرفية الى حد الغاء هذا الامتياز عمليا، والابقاء عليه صوَرياً.
في هذا الاطار، يحاول مصرف لبنان، بالتنسيق مع المصارف من جهة، والتعاون مع الطرف الأميركي من جهة أخرى، الوصول الى صيغة تُرضي الأميركيين، من دون أن تؤدّي الى إلحاق أضرار جسيمة بالمصارف اللبنانية التي تخشى فقدان نسبة من حجم الأعمال، اذا ما أُرغمت على التخلّي عن وضعية السرية بشكل تام. بالاضافة الى ذلك، سيكون على المصارف تسريع الخطى لكي تصبح جاهزة لتطبيق اتفاقية فاتكا (FATCA). وهذا الالتزام سوف يحمّل المصارف، سيما المتوسطة والصغيرة منها، اعباء مالية اضافية ستؤدّي الى خفض أرباحها.
تبقى مسألة تأمين العملات الصعبة لتسيير شؤون الدولة، هاجساً آخر يتولّى مصرف لبنان هندسة المخارج المؤقتة له. لكن هذه المعالجات لا تستطيع ان تستمر طويلا من دون ان تنعكس على سمعة البلد المالية، وعلى احتمالات خفض تصنيفه الى درجات تُقرّبه اكثر من دائرة المخاطر المرتفعة.
( الجمهورية اللبنانية 26/11/2013 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews