ليبيا تئن تحت وطأة الحكم بقوة السلاح
لا تحمل المركبة ذات الدفع الرباعي أوراق تسجيل، والسائق يجلس خلف زجاج مطلي، وهما أمران مخالفان للقانون في ليبيا. أما من طلب التفتيش عن أوراق هذا السائق، فهم من عناصر تعمل تحت إمرة مليشيات سابقة، وينصبون نقاط تفتيش على الطرق في طرابلس، ويسمون أنفسهم الآن قوة الرد السريع المشتركة. ادعى الرجل أنه أحد مقاتلي كتيبة النسور، وهي المجموعة الصلبة المنتمية للمليشيا التي تتخذ لها مركزاً في طرابلس، وتعود جذورها إلى مصراته، وطلب منه أن يراعي ذلك. وبعد أن تبادلا الكلمات الفظة، انطلق السائق غاضباً، وهو يحدث صوتاً عالياً بعجلات سيارته، ويقسم بأنه سيعود لهم مرة أخرى مع رفاقه. بعد أسبوعين ومئات من الرصاصات، تطور هذا التوقيف الروتيني المروري الذي حدث ليلاً، ليصبح أزمة وطنية واسعة النطاق خلفت وراءها 46 قتيلاً ومئات من الجرحى، أغلبهم من المدنيين. توضح هذه القصة هشاشة الأمن في ليبيا، وتجدد من القلق الذي استمر لفترة طويلة على مستقبل هذه الدولة الغنية بالنفط.
تقول حنان صلاح، الباحثة في منظمة هيومن رايتس ووتش في طرابلس: ''أصبح من المقبول تماماً في طرابلس استخدام القوة وسيلة لتحقيق أهداف معينة، وأصبح ذلك شيئاً يومياً. إذا لم يعجبك شيء فبإمكانك اختطاف رئيس الوزراء لعدة ساعات، أو اختطاف ابن وزير الدفاع بدلاً من ذلك. الحكومة هي التي وضعت نفسها في هذا الوضع، سواء كان ذلك برغبة منها أو بدونها''. يكافح اليوم الليبيون والمجتمع الدولي لحل مشكلة الأمن ووقف انجراف البلاد نحو هوة الفوضى وبسرعة. لم يعد هدفهم فقط هو إحياء صناعة النفط وتحويل ليبيا إلى قوة إقليمية في مجال الطاقة، بل لأجل استعادة ما تبقى من الروح الوطنية التي ولدتها انتفاضة عام 2011 ضد نظام معمر القذافين أيضاً.
ليست المليشيات فقط هي التي تُدير ليبيا، ولكن توجد أيضاً تشكيلات مختلفة تشرف على بلدات ومدن عبر البلاد، ما يرفع من مخاوف ظهور شبح التقسيم. يستحيل على بلاد محطمة حماية حدودها وخطوط الشحن وبنيتها التحتية، ومنها منشآتها النفطية التي يتزايد استيلاء الشخصيات السياسية المحلية عليها.
أما خارج المدن الكبيرة، فقد أصبح الخليط المتفجر المكون من العداوات القبلية والعرقية العميقة عنصراً آخر من عناصر المشكلة. من الأمثلة على ذلك سيطرة المليشيات التابعة لمجموعة التبو العرقية إلى حد كبير على مقاطعات للطوارق. وتخوض هذه الأقليات العرقية أحياناً صراعات مع مليشيات قبائل عربية، دأبت النظر إليها لفترة طويلة بعين الشك والريبة.
كما ظهرت حركات في شرق البلاد وغربها تطالب بالاستقلال الذاتي ضمن هذه الدولة الغنية بالنفط والغاز، بسبب انعدام الثقة بدولة ما بعد القذافي، متشجعة بضعفها. سبّب انهيار الأمن في البلاد انخفاض إنتاج النفط من 1.4 مليون برميل في اليوم في بداية السنة إلى 200 ألف برميل فقط اليوم. يقول دبلوماسي في طرابلس: ''هناك تطلعات لبناء قوة عسكرية واحدة وأمن وطني في البلاد، ولكن لا يوجد حتى الآن جيش وطني ولا أمن وطني، إضافة لذلك لا يوجد نظام حماية للحدود لمنع تدفق الناس والوقود والبضائع والأسلحة والمخدرات إلى البلاد، لهذا هناك تهديد حقيقي جداً للبلاد سواء من الداخل أو من الخارج. وإلى أن تتمكن ليبيا من بناء مؤسسات أمنية منظمة، فسنبقى نواجه مثل هذه الصعوبات''.
كان من المفروض حل المجموعات المسلحة المدعومة من حلف الناتو التي أقصت نظام القذافي، وذلك بعد خلع ذلك الديكتاتور. كما توقع كثيرون أن ينضم أفراد المليشيات إلى صفوف جيش ليبي جديد وقوات شرطة جديدة، أو ببساطة العودة إلى نمط حياتها السابقة. لكن الذي حدث هو العكس، فقد أحبّ الشباب بنادقهم، التي أصبحت ملتحمة بهويتهم – إذ باتت مصدراً للاحترام الذي حُرِموا منه أيام القذافي. كلمة ''ثوار'' تستخدم الآن فقط لوصف حملة رشاشات كلاشنكوف، وليس لوصف الشعراء أو الساسة.
ازدادت المليشيات حجماً وقوة نتيجة لانتشار أسلحة القذافي المنهوبة، وشحنات الأسلحة التي وصلت من الخارج إلى الموانئ التي سيطروا عليها. وبدلاً من صهر الكثير من الكتائب المسلحة في بوتقة واحدة، بقيت منفصلة ومتماسكة وتلقت الدعم والاعتراف من وزارتي الدفاع والداخلية. ولخوف الحكومة من توجه هذه الأسلحة نحوها، منحت هؤلاء تراخيص بحملها واستمرار التلويح بها.
أما بالنسبة لشاب يقارب من العمر 20 عاماً، فيعتبر حمله للسلاح لحراسة نقطة تفتيش براتب يبلغ 1500 دينار في الشهر، لقاء ثلاثة أيام من العمل في الأسبوع، أكثر جاذبية من العمل كلحام معادن أو كموظف حكومي، في الوقت الذي يتقاضى فيه معلم مدرسة تبلغ خبرته 30 عاماً، على سبيل المثال، راتباً شهرياً يقارب 800 دينار. أما المليشيات التي تُعد بالمئات، فتتبع على الأغلب أجندات اجتماعية أو إقليمية متشددة، تتعارض مع إرادة الليبيين الذين دعم غالبيتهم في انتخابات العام الماضي، قائمة مرشحين ليبراليين نسبياً، ولمصلحة حكومة مركزية.
في اليوم نفسه الذي حدثت فيه أول مواجهة مع كتائب النسور أوائل هذا الشهر، قالت ميليشيات قوة الرد السريع المشتركة إن الوضع الأمني للبلاد يسير في الاتجاه الصحيح. حدد عادل رحومة، المتحدث باسم هذه المليشيا مشكلة مختلفة عما يحدث، معتبراً أن القضية الرئيسة التي تواجهها ليبيا هي استخدام الشباب للمخدرات.
وقال في مقابلة أجريت معه في المقر الرئيس لوحدته الواقع في مطار ميتيجا في طرابلس: ''المخدرات هي الهم الأكبر الذي نواجهه، وخاصة المخدر القوي ترامادول، ولكننا بدأنا نُحكم السيطرة على هذه الأشياء بالتدريج، أما إذا أراد الليبيون جهة توفر الأمن والحماية لهم، فهي نحن''. وبعد ساعات من ذلك، بدأت المدافع المضادة للطائرات التابعة لقوة الرد السريع المشتركة وعدوتها ميليشيات مصراتة تدوي في سماء العاصمة، مسببة الرعب لسكانها البالغ عددهم مليوني نسمة، حيث طغت ومضات الطلقات على السماء طوال الليل وحتى طلوع الفجر. احتمى الناس ببيوتهم وهم غير متأكدين مما يحدث. وبعد ذلك لجأت الحكومة إلى السماح بنقل اثنين على الأقل من المصابين بجراح خطيرة، كبادرة منها للتخفيف من الأعصاب الهائجة.
يقول عبد الله اليازجي الموظف في شركة دولية البالغ من العمر 38 عاماً والمقيم في طرابلس: ''يُمكنك توقع أي شيء، ويمكن أن تشاهد وجوداً كبيراً للشرطة، ولكن عندما يحدث احتكاك بين المليشيات، فإن الشرطة لا تفعل شيئاً لإيقاف ذلك''. حل لغز الأمن الليبي يعني فك طلاسم سلسلة من الأمور المتناقضة. لا يُمكن أن يوجد أمن دون اقتصاد مزدهر، ولكن لا يُمكن تحقيق نمو اقتصادي دون أمن. والشرطة لا تستطيع فرض الأمن دون تفكيك المليشيات، ولكن المليشيات ترفض تفكيكها، لأنها لا تثق بالقوات الأمنية المرتدية للزي الرسمي. صعود القوى القبلية والمحلية هو الشيء الوحيد الذي حفظ ليبيا من السقوط في الفوضى، ولكنه يعمل في الوقت نفسه على تقويض سلطة الحكومة. الحكومة التي يرأسها ناشط حقوق الإنسان والدبلوماسي السابق على زيدان، تجد نفسها عاجزة عن فعل شيء، وتعتمد في الوقت نفسه على المجموعات المسلحة التي هي أصل الضعف الذي تعانيه.
في الشهر الماضي اختُطف زيدان من قبل رجال ميليشيا تُعتبر اسميّاً تحت سلطة وزير الداخلية، ولم تكن الشرطة هي من أطلق سراحه بعد ساعات قليلة من اختطافه، إنما الذي أطلق سراحه هو قوة منافسة مكونة من رجال ميليشيا تابعين لوزارة الداخلية.
تلجأ السلطات عادة لوقف العنف لوسطاء موثوقين مثل هاشم بشار. قضى بشار، وهو نفسه قائد ميليشيا سابق، الليلة الأولى التي نشب فيها القتال بين مقاتلي مصراتة وطرابلس، وهو يناشد جميع القادة السياسيين وزعماء المليشيات والقبائل الالتزم بالهدوء. وقال لأحد قادة مليشيات طرابلس من شديدي الغضب وهو يقسم بالانتقام من ميليشيات مصراتة: ''هذا ليس وقت البحث عن الانتقام، هذا وقت التصالح''.
وقال إن عملية الترقيع التي صاحبت جذب وحدات المليشيات إلى الوزارات المختلفة - وهي خطة العامين الماضيين- فشلت فشلاً ذريعاً. ويضيف: ''يأتي الخطر عندما لا تتمكن من بناء أمن من خلال مؤسسات الدولة. عليك أن تقوي أولاً المؤسسات الموجودة بالفعل، لدينا شرطة وجيش، وهما يحتاجان للحصول على الشرعية''. تخرّج الشهر الماضي ألف شخص من كوادر الشرطة الجدد من الأكاديمية، وكان الكثير منهم من رجال الميليشيات. ربما يكون أفضل حل يمكن اتباعه لحل مشكلة المليشيات، هو استخدام عائدات النفط لسحب الشباب بعيداً عن المليشيات، إما عن طريق إغرائهم وجذبهم بالحيلة إلى القوات الأمنية النظامية، وبذلك يحصلون على أعمال جديدة، أو إرسالهم إلى الخارج للدراسة.
المشكلة هي اعتقاد الكثيرين من رجال المليشيات، خاصة المتشددين منهم، بأن الشرطة والجيش والقضاء أدوات فاسدة من عهد نظام القذافي، إنهم ببساطة لا يثقون بهم. وقد بنيت الكثير من العوائق التي تقف أمام إنشاء قوة على أيدي رجال المليشيات أنفسهم، لانهم لا يريدون استبدالهم بأي قوة أخرى.
تقول كلوديا جازيني، الباحثة المتخصصة في الشؤون الليبية في مجموعة الأزمات الدولية: ''يرى الإسلاميون في قوات الجيش والشرطة السابقين يداً متسللة من النظام السابق، أما اللافت للنظر بخصوص التوجه الإسلامي فهو تحدي الناس الكامل لهذا التوجه. وبالنسبة لهؤلاء الإسلاميين، فإن كل الناس ضد الثورة، لأنه تم غسل أدمغتهم طوال 40 عاماً من حكم القذافي''.
يقول الخبراء إن أكبر قوة على الأرض الليبية هي درع ليبيا، وهي مليشيا تعتبر فرعاً من وزارة الدفاع، مكوّنة من رجال مليشيا سابقين يمتلكون أسلحة وخبرات قتالية يفتقر إليها الجيش نفسه. على أنه توجد عمليات تنافس خطيرة، حتى ضمن صفوف ميلشيا الدرع، خاصة فروع المسلحين بأسلحة ثقيلة الموجودين في مصراتة والزنتان الجبلية الواقعة في غرب البلاد. سبق للولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وتركيا أن تعهدت بتدريب قوة مهمات عامة تحت السيطرة المباشرة لرئيس الوزراء، لكن بعض الخبراء يخشون من أن تتحول هذه القوة إلى فرع تنفيذي من الحرس البريتوري (حرس النخبة في الجيش الروماني القديم)، بمعنى أنها يمكن أن تصبح مليشيا أخرى تعيث فساداً في البلاد.
تقول صلاح العاملة مع ''هيومان رايتس ووتش'': ''هذه هي خطتهم الكبرى لتأسيس ليبيا، ولكن ليس من الواضح نوع التفويض الممنوح لها، ومتى ستنتهي مدة صلاحيتها؟ وما هو مستقبل هذه القوة؟. من الذي سيتولى مراقبة هذه القوة؟ ومن أين ستأتي؟ وكيف نضمن ولاءها؟'' كلها تساؤلات بلا إجابات. استمرت جهود وساطة بشار لمدة ثلاثة أيام. ثم تجدد القتال بين كتائب مصراتة وميليشيا طرابلس في طرابلس، وسط تقارير تفيد بأن قائد كتائب النسور قد توفي متأثراً بجراحه في مالطا. القتال في تلك الليلة كان أكثر شراسة، حيث بدأ رجال الميليشيات نقل الأسلحة ذات العيار الكبير والمحمولة على عربات، ما تسبب في غضب سكان العاصمة الذي يسعون للعودة إلى الحياة الطبيعية.
( فايننشل تايمز 23/11/2013 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews