كوريا الشمالية.. هل تملك رؤية استراتيجية؟
إن الرؤية الشخصية لصانع السياسة، أو الخبير الاستراتيجي يجب أن تتضمن نظرة موضوعية للبيئة الحالية داخلياً وخارجياً، وتقويماً مسبقاً لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن نجاح بلاده في المستقبل. ومع أن الخبير الاستراتيجي يعترف بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو دقيق، فإنه يعتقد بأنه يمكن التأثير فيه، وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل. وإذا قلنا إن الاستراتيجية لصيقة بالمستقبل، فلأنها تُعنى به، وتحاول تجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو ردعها أو حلها، وهذا هو عمل الاستراتيجي وشغله الشاغل.
لكن هناك سؤال يطرحه العديد من المتتبعين: هل امتلاك الاستراتيجية لصيق بالدول الديمقراطية، أم يمكن أن يمتلكها حتى قادة الدول الدكتاتورية؟ الجواب هو أنه قد يكون صاحب الحل والعقد في دولة من الدول أحد كبار الدكتاتوريين في العالم، لكنه قد يمتلك بعضاً من الجوانب الصحيحة من المفاهيم الاستراتيجية التي ينجح في استيعابها وتنفيذها بذكاء، على شاكلة زعيم كوريا الشمالية عندما أدخل بلده إلى نادي الدول النووية الكبرى من دون منازع.
نعلم أن المنطقة على حافة بركان، وما زالت كوريا الشمالية مع كوريا الجنوبية تقنياً في حالة حرب منذ سنة 1953 تاريخ انتهاء الحرب في شبه الجزيرة الكورية التي لم تتسم سوى بهدنة وليس بمعاهدة سلام. وشهدت هذه السنوات الـ65 عدداً كبيراً من التوترات المتتالية، وكان مجلس الأمن الدولي قد أقر أواخر ديسمبر الماضي مجموعة جديدة من العقوبات على بيونج يانج عبر تصويت بالإجماع على قرار أميركي، بمنع تسليم كوريا الشمالية نحو 75 في المائة من المنتجات النفطية المكررة، وإصدار أمر بإعادة جميع الرعايا الكوريين الشماليين الذين يعملون في الخارج إلى بلادهم قبل نهاية 2019.
ثم يأتي الدكتاتور كيم جونغ ويفتح نافذة أوكسجين في رأس السنة الميلادية من خلال عالم الرياضة، حيث صرح في كلمته «آمل بصدق أن يقام أولمبياد بيونج تشانج الشتوي بشكل ناجح»، مضيفاً: «نحن مستعدون لاتخاذ الخطوات المطلوبة، بما فيها إرسال وفدنا» إلى الألعاب الأولمبية الشتوية التي ينظمها الجنوب من 9 إلى 25 فبراير المقبل. وأضاف: «على سلطات الشمال والجنوب أن تلتقي في المستقبل القريب»، مؤكداً أن على الشمال والجنوب «نسيان الماضي وتحسين علاقاتهما واتخاذ تدابير حاسمة لتحقيق ثغرة في الجهود الرامية للتوصل إلى إعادة توحيد» شبه الجزيرة.
وقبل أن ينهي الزعيم الكوري خطابه، رحّب البيت الأبيض بدعوته، بل تباهى الرئيس ترامب بأنه كان هو السبب من وراء هذا التوجه، وقبل أن تتهاطل التحاليل الدولية رحبت كوريا الجنوبية بالقرار، إذ عرض وزير إعادة التوحيد الكوري الجنوبي على بيونج يانج إجراء مفاوضات على مستوى رفيع، أملاً في أن يتمكن الجنوب والشمال من الجلوس وجهاً لوجه.
مستلزمات اللحظة الاستراتيجية فرضت على الزعيم الكوري هاته السياسة، حيث فهمها وطبقها، فنال بذلك ابتسامات وتصفيقات من أميركا وكوريا الجنوبية واليابان، ولربما سيغض الجميع الطرف، رغم العقوبات الأممية، عن المواد الأولية التي ستصله من خلال سفن سمان صينية وروسية، فالأكيد اليوم هو أنه يستحيل استحالة مطلقة القيام بحرب وقائية ضد الزعيم الدكتاتور، فلو افترضنا قيام أميركا بضربة مفاجئة تستهدف البنية التحتية لجيش كوريا الشمالية من شأنها إضعاف قدرته بشكل جوهري على مهاجمة الولايات المتحدة، وربما تشعل انقلاباً أو ثورة في البلاد.. فإن هذا السيناريو له سلبيات عدة، لعل أهمها هو إمكانية فشله الذريع لأن صواريخ النظام الكوري الشمالي مخفية في جميع أنحاء البلاد. ونظراً لأن الضربة الأميركية الأولى لن تقترب حتى من نزع أسلحة زعيم كوريا الشمالية بالكامل، فإن انتقامه بشكل شبه مؤكد سيتضمن مقتل العديد من المدنيين.
ذكرت هذا المثال لأبين أن الاستراتيجية قد تجد تطبيقات حتى في الدول اللاديمقراطية، لكن نفعها يكون محدوداً إذا أخذنا الاستراتيجية من جهة ازدهار البلاد في جميع الجوانب اقتصادياً واجتماعياً وخارجياً، فقط وحدها العقول الاستراتيجية الحرة تتداخل تداخلاً نظرياً تاريخياً ناجحاً مع جميع المعضلات، بما فيها معضلات السياسة الداخلية والخارجية والاقتصاد والسلطة والمجتمع، فيقدم حولها معرفة علمية ويساهم في ترشيد التوجيه والممارسة: ممارسة عملية التغيير والتقدم، وهاته مسيرة الدول المتقدمة.
الاتحاد 2018-01-10
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews