قليل من الملل في مكان العمل لن يضر كثيرا
واحدة من أولى وظائفي كانت إدارة متجر لديه عدد قليل للغاية من الزبائن - مجموعة صغيرة يومياً - بحيث إنني كنتُ أُعاني ذهول الهلوسة. في البداية، كنت أشعر بالسرور من وصول هؤلاء المتسوقين النادرين وأقف بسرعة لمساعدتهم. لكن سرعان ما شعرت بالملل بحيث أصبحت عاجزة عن إخراج نفسي من هذا السُبات الملتوي وبدأت أستاء من وجودهم.
خطر هذا الملل على بالي عندما سمعت الأخبار عن عامل فرنسي كان يُقاضي صاحب عمله السابق بسبب "خروجه من العمل بسبب الملل". يُقال "إن الرجل الذي في الأربعينات من العمر كان يُعطى قليلا من العمل بحيث إن الملل الناتج أثار مشكلات صحية". ونقلت صحيفة "التايمز" عنه قوله "لم يهتم أي أحد إذا وصلتُ في الساعة التاسعة صباحاً أو العاشرة صباحاً. كان علي شراء بعض اللوازم - بضع أوراق - وبعد ذلك ينتهى نهاري (...) في البداية تدخل على الإنترنت، ومن ثم تُغلق الباب على نفسك في مكتب فارغ وتبدأ في البكاء".
يُنظَر إلى القضية باعتبارها من أعراض قوانين العمل الفرنسية الصارمة. المصطلح "ميزو بلاكار"، الذي يعني بالفرنسية وضع الأشياء داخل خزانة، يصف الحالة عندما يُمنَح الموظفون أدواراً تافهة بدلاً من تسريحهم من العمل، وهو وضع يحاول الرئيس فرانسوا هولاند تغييره من خلال إصلاح قوانين العمل.
كريستيان بوريون، من كلية ICN لإدارة الأعمال، يعتقد أن الخروج من العمل بسبب الملل أمر مُنتشر في الحياة العملية الفرنسية. وقد أجرى بحثاً عن العمال الفرنسيين في عام 2011، متوقعاً أن يجد أنهم يعانون الإرهاق بسبب الإجهاد، لكنه فوجئ من اكتشاف العزلة والاكتئاب الناجم عن عدم توافر العمل. "الخروج من العمل بسبب الملل" هو مصطلح طبَّقه على الذين يجلسون دون عمل لمدة ست ساعات أو أكثر. في كثير من الحالات، تفاقم الوضع بسبب نوع من ما يعرف بشعور "ذنب الناجيين": شعور أنه لا يُمكنهم الشكوى حين يكون هناك آخرون عاطلون عن العمل.
لكن كما أثبتت وظيفتي في المتجر "وأوقات أخرى من حياتي العملية"، الملل بالكاد يكون مقتصراً على أماكن العمل في فرنسا. أزمات منتصف العمر تنشأ بسبب الملل. في أنحاء العالم كافة، هناك جحافل من الخرّيجين يعملون في وظائف لغير الخرّيجين، أو تعطي فرصة ضئيلة للتطور. بحث جديد أجراه معهد تشارترد للأفراد والتطوير يُظهر انخفاض الرضا الوظيفي في المملكة المتحدة، مع شعور الموظفين بأنهم يتمتعون بمؤهلات أعلى من الأدوار التي يؤدنها وأنهم غير قادرين على التطور المهني. رولاند بولسن، مؤلف كتاب "إيمبتي ليبور" (العمل الفارغ)، يقول "اقتصادنا يُنتج تباينا في الدخل والأمن الوظيفي، لكن أيضاً ينتج تباينا في التحفيز والجوهر".
رد الفعل العنيف ضد أنظمة الإدارة العلمية في أوائل القرن العشرين التي كانت تسعى إلى تحويل الناس إلى آلات ذات كفاءة، انحرف أكثر مما يجب إلى الحديث عن الشغف والعمل كتعبير إبداعي عن أنفسنا. وهذا يدفع أصحاب العمل إلى جعل الوظائف المملة تبدو كأنها فرص مُثيرة للأشخاص المُبدعين. وكما أخبرني أندريه سبايسر، المؤلف المُشارك لكتاب سيُنشَر قريبا بعنوان "ذا ستيوبيديتي بارادوكس" (مفارقة الغباء)، "يوعَد الناس بوظائف ممتعة ومُثيرة للاهتمام، لكن ما يحصلون عليه بعد ذلك هو عمل يومي عادي وروتيني".
الرؤية المتفائلة للمستقبل تصور الروبوتات على أنها تفتح باب الحرية أمامنا، لأنها حرّرت الموظفين الإداريين والمهنيين من الملل. موظفون في واحدة من شركات الخدمات المالية التي زرتها في الحي المالي في لندن كانوا سعداء لأنه تم إعفاؤهم من عمل إدخال البيانات الشاق من خلال آلة يُمكن أن تؤدي العمل بشكل أفضل من البشر الذين يؤدون العمل وهم في حالة ذهول. هؤلاء العاملون كانوا يعيشون الحلم الذي تحققه الآلات: تحرروا من الجزء الأكثر مللاً من وظائفهم للتركيز على الأمور التي يستمتعون بها.
لكن الخطر، بالطبع، هو أن تحل الروبوتات محلنا في مكان العمل بالكامل. أن نشعر بالملل ونتلقى أجراً هو بالتأكيد أقل إجهاداً من كوننا نشعر بالملل وفقراء.
بجرعات مناسبة، قليل من الملل يُمكن أن يكون أمراً مفيداً لكننا في خطر فقدان هذه العادة. وجدت إحدى الدراسات أن الناس يفضّلون التعرض لصدمات كهربائية على أن يكونوا وحدهم مع أفكارهم. تفقّد البريد الإلكتروني وموقع تويتر يُبعدنا عن الشعور الدقيق بالملل وأحلام اليقظة.
شاين بنش، الذي أجرى بحثا عن وظيفة الملل، يعتقد أنه بالجرعة المناسبة يكون بمثابة تحفيز. هذا يؤيّده بيتر توهي، أستاذ الدراسات الكلاسيكية الذي يعترف في كتابه "بوردوم: آيه ليفلي هيستوري" (الملل: تاريخ حي)، أنه كان "يشعر بالملل في العادة". هذا يعتبره نعمة تجعله يرى الملل على أنه شعور للتكييف، بالمعنى الدارويني، يهدف إلى "مساعدة المرء على الازدهار".
الملل يُثير الإبداع. دراسة في مجلة "كريتيفيتي ريسيرش جورنال" تعود إلى عام 2014 حاولت إصابة الناس بالملل إلى أن يفقدوا إحساسهم، لمعرفة التأثير. طُلِب من مجموعة نسخ دليل الهاتف، وأخرى قراءته. المجموعة الأكثر ضجراً - تلك التي طُلب منها قراءته - واصلت عملها لتحقق أفضل أداء في مهمة مُبتكرة. وأشار المؤلفون إلى أنه قد يكون "من المفيد السماح، أو حتى اعتماد الملل في العمل".
بالتأكيد وظيفة المتجر المُحبطة دفعتني إلى السفر. الملل في أدوار أخرى أجبرني على الخروج من منطقة الراحة الخاصة بي.
هناك خيط رفيع بين الملل الصحّي وهاوية اليأس.
(المصدر: فايننشال تايمز 2016-05-11)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews