حرب العملات .. الضغط الأمريكي يحشر اليابان في الزاوية

ما أسرع ما يتغير الزمن. عندما شرعت الولايات المتحدة في برنامج التسهيل الكمي في عام 2009 اتهِمت باللجوء إلى تخفيض العملة التنافسي. لكن الموقف الآن على العكس تماما ما كان سابقا. ففي ظل أحكام جديدة لـ "قانون تسهيل التجارة الإنفاذ" لعام 2015، الذي تم التوقيع عليه ليصبح قانونا في شباط (فبراير) الماضي، أفردت وزارة الخزانة الأمريكية كلا من الصين واليابان وكوريا وتايوان وألمانيا على أنها من البلدان التي يمكن أن تكون متلاعبة بالعملة.

البلدان الخمسة على قائمة المراقبة في تقرير وزارة المالية المقدم إلى الكونجرس، وتوصف بأنها تطبق اثنين من ثلاثة معايير من شأنها أن تؤدي إلى عملية تشتمل على تحليل معزز، ومشاركة ثنائية الجانب معززة، وإجراءات تصحيحية، إذا كانت هذه المشاركة لا تؤدي إلى سياسات تعالج خفض قيمة العملة والفوائض التجارية. وتشتمل المعايير على فائض تجارة ثنائية الجانب يبلغ أكثر من 20 مليار دولار ضد الولايات المتحدة، وعجز في الحساب الجاري أكبر من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتدخل في العملات الأجنبية يصل إلى أكثر من 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام.

وهذا يزيد التوتر فيما يسمى اليوم "حروب العملات". ولا بد أنه يستحضر أمثلة تاريخية غير مريحة بالنسبة للصين واليابان. فقد اضطرت الصين في ثلاثينيات القرن الماضي إلى الخروج عن معيار الفضة، عندما حاولت وزارة الخزانة الأمريكية مساعدة منتجي الفضة الأمريكيين الذين تعرضوا لضغط شديد، وذلك بالتلاعب في سعر الفضة لكي يرتفع. وفي الوقت الذي ارتفعت فيه العملة الصينية، كان لا بد من التخلي عن ربط قيمتها بالفضة. وبعد اعتماد العملة الورقية وقعت حالة من أعلى حالات التضخم الجامح في التاريخ. وهذا بدوره مهد الطريق لتغيير النظام واستيلاء الشيوعيين على السلطة.

تجربة اليابان في الرضوخ للضغط الخارجي بشأن العملة كانت أقل دراماتيكية، لكنها مؤلمة. كان اتفاق بلازا في عام 1985 يهدف إلى إضعاف سعر صرف الدولار المبالغ في تقييمه مقابل الين والمارك الألماني والفرنك الفرنسي والجنيه الاسترليني. نجح الاتفاق بشكل جيد فوق الحد. الانخفاض في أسعار الفائدة الذي رافق انخفاض سعر صرف الين أدى إلى انفجار الفقاعة اليابانية الكبيرة في عام 1990 وبشر ببداية عصر الركود الذي لا تزال اليابان تتخبط به.

الشيء الغريب في هذه الحرب هو أنه يمكن القول إن العملة في الصين مبالغ في تقييمها. تجربة اليابان الأخيرة تبين مدى صعوبة إحداث تخفيض تنافسي في قيمة العملة. عندما أعلن بنك اليابان عن انتقاله إلى أسعار الفائدة السلبية في كانون الثاني (يناير) كان رد الين هو الارتفاع. وعندما فشل بنك اليابان لاحقا في تلبية توقعات السوق بشأن المزيد من التسهيل، ارتفعت قيمة العملة حتى أكثر من قبل.

كان السبب وراء قوة العملة هذا العام يرجع في جزء منه إلى دور الين كملاذ في أسواق شباط (فبراير) وآذار (مارس) المتقلبة. والسؤال المثير للاهتمام هو لماذا استمر الارتفاع في قيمة العملة عندما عادت شهية المستثمرين للمخاطر واستقرت الأسواق في نيسان (أبريل).

لا شك أن تفكك صفقات "تجارة المناقلة" التي تم خلالها استخدام الين عملة للتمويل، يعد جزءا من التفسير. وفي الوقت نفسه يقدر بنك جيه بي مورجان في طوكيو أن الشركات اليابانية راكمت مبلغا مقداره 50 تريليون ين من العائدات التي يتم الاحتفاظ بها في الخارج التي بدأت الآن في التفكك. ويبدو من المرجح أيضا أن العملة الآن، كما كانت الحال في السبعينيات، مدفوعة عن طريق فائض الحساب الجاري المتضخم الذي يتوقع جيه بي مورجان أن يبلغ 21.6 تريليون ين - أو 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي - في عام 2016.

على خلاف ألمانيا، التي لا توجد لديها سيطرة مباشرة على أسعار الفائدة في منطقة اليورو أو على اليورو، وبالتالي يمكنها إدارة فائض ضخم في الحساب الجاري يصل إلى 8.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مع الإفلات من العقاب، اليابان لا يمكنها أن تخفي ذلك. وبالنظر إلى أن انخفاض قيمة العملة كان العنصر الوحيد الذي أعطى برنامج آبي الاقتصادي تأثيرا كبيرا على الاقتصاد، إلا أن الارتفاع العنيد في قيمة الين هذا العام لا بد أن يكون مصدر قلق خطير. ونظرا لحجم الفائض في الحساب الجاري، قد يكون ما قيمته عشرة تريليونات ين من التدخل (المسموح به بموجب المعيار الثالث لوزارة الخزانة الأمريكية) مجرد طلقة خفيفة وليس قذيفة بازوكا.

في عطلة نهاية الأسبوع أوضح وزير المالية الياباني، تارو آسو، أنه لا يشاطر وزارة الخزانة الأمريكية الرأي القائل إن سوق الين تعمل بصورة مرتبة، وأشار إلى أن مبادرة الولايات المتحدة لن تكون قيدا على التدخل. لذلك يمكن أن يكون هناك توتر في الفترة المقبلة.

لكن يمكن القول، إن "الحرب" لا طائل منها، لأنها كما أظهر الاقتصاديان باري آيكينجرين وجيفري ساكس في عدد من الأبحاث في منتصف الثمانينيات، التوسع النقدي غير المنسق عبر ما يفترض أنها سياسات تجارية لإفقار الجار كان حميدا في الثلاثينيات لأنه زاد معروض النقود العالمية. الفرق اليوم، كما تبين لليابان، هو أن التوسع النقدي يصبح من الصعب تحقيقه حتى مع أسعار الفائدة السلبية.

(المصدر: فايننشال تايمز  2016-05-07)