العالم يتغير والمنظمات باتت أقوى من الدول والاقتصاد يتعثر والولايات المتحدة تتخلى عن دورها القديم
يسأل الكثيرون كيف فوجيء الخبراء الذين يدرسون العالم بشكل عام والشرق الاوسط بشكل خاص. فأحد لم يتوقع احداث الربيع العربي، واحد لم يتوقع نشوء حركة داعش، واحد لم يتوقع ان تغرق اوروبا بالمهاجرين. بل ان أيا من الخبراء لم يتوقع ما يجري في الولايات المتحدة. لا مفر من الاستنتاج بان شيئا عميقا حصل، فجعل العالم الحالي عسيرا على الفهم.
المرة الاخيرة التي كان فيها العالم هكذا هي بعد الحرب العالمية الاولى، عندما اختفى العالم القديم ولم ينشأ الجديد بعد. مؤتمر السلام في باريس في 1919 كان ينقصه الادوات لمواجهة العالم الجديد، الذي وصلت فيه الثورة الصناعية الى ذروتها، وحل المواصلات المؤللة تلك التي كانت تجرها الجياد، وجعلت الطائرات المسافات البعيدة أقل اهمية.
بقدر ما كان مؤتمر فرساي مثابة محاولة من الدول التي قادت العالم القديم، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، الابقاء على مكانتها وقواعد اللعب التي كانت صممت قبل مئة سنة من ذلك، بعد حروب نابليون وادت الى ازدهار العالم الذي كانت اوروبا مركزه.
ولم تتأخر نتيجة استخدام الادوات القديمة في العالم الجديد. فبعد عشرين سنة من اتفاقات فرساي، التي كان يفترض بها أن تحقق السلام العالمي، جاءت الى العالم حرب فظيعة. وبقدر ما فهم ادولف هتلر افضل من الاخرين قواعد اللعب الجديدة – ولكنه لم يفهم معنى التفوق الصناعي الامريكي. قنبلتان نوويتان على اليابان واحتلال برلين ادت الى انهاء الحرب وتثبيت قواعد جديدة منعت حربا جدية منذ 70 سنة.
في العالم ثنائي القوى العظمى، الذي نشأ كان واضحا بانه لا يضرب جانب ما مناطق نفوذ الجانب الاخر، وتعلم الزعماء كيف يتعايشوا في منظومة ذات مركزين، واحد في واشنطن وآخر في موسكو حين يمكن لكلتيهما أن تقضيا على العالم سبع مرات بسلاح نووي لم يرغب احد في استخدامه بعد هيروشيما ونجازاكي.
ثقافة غضب
غير أن العالم الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية اختفى. وكان الحدث الاكبر الذي غيره هو انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي. ولكن ما اعتبر كانتصار امريكي ودليل على فشل النهج الشيوعي كانت له صلة بالشرق الاوسط، وان لم يكن انتبهوا اليها في ذاك الوقت الا ان اهميتها تبينت بأثر رجعي. فبعد أن اجتاح الروس افغانستان في 1979، نجحت قواته محلية بمساعدة الولايات المتحدة في هزيمتهم، وانسحب الاتحاد السوفييتي من هناك مكللا بالعار عشية انهياره. واعتبر الحدث في العالم الاسلامي كانتصار للاسلام على قوة عظمى غربية وكسبب أساس لسقوط الاتحاد السوفييتي. وادى هذا النجاح الى نظرة اخرى من العالم الاسلامي الى ذاته، حيث بذرت بذور الجهد المتجدد للاسلام السني السياسي، الاصولي، الوحشي وغير المساوم. وتجسدت هذه الحركات في اشكال مختلفة في المدى الذي بين الاخوان المسلمين، عبر القاعدة وحتى الدولة الاسلامية.
قبل نحو عقد من انهيار الاتحاد السوفييتي، نجح شيخ شيعي كبير في أن يقود انقلابا ويسيطر في ايران، الدولة الشيعية الاكبر. الشيعة هم 15 في المئة من عموم المسلمين، ولمئات السنين كانوا أقلية مقموعة طورت ثقافة مسكنة وغضب. ليس بعد اليوم. فقد غير الخميني النهج تماما، وبقيادة ايران الشيعية تحولوا الى قوة دينامية في الشرق الاوسط. في مراحل معينة حاولوا اطلاق ايديهم ايضا الى الدول التي لا توجد فيها شيعة كالجزائر والسودان (اليوم تبقت فقط العلاقة مع حركات فلسطينية سنية كحماس والجهاد الاسلامي). ولكنهم في نهاية المطاف ركزوا على بناء قوس شيعي يبدأ من طهران، عبر بغداد وحتى دمشق وبيروت. وكان نجاحهم الاكبر في “تصدير الثورة” هو تنظيم حزب الله في لبنان.
الاقليات اصبحت أغلبية
الشرق الاوسط اليوم هو اساسا نتيجة ثلاثة قوى: الاسلام السياسي، الذي يكافح ضد مظاهر الدولة والحداثة، احتكاك يصل حتى الحرب في كل مكان يوجد فيه شيعة وسنة، وظروف محلية تنبع من أن ايا من الحكومات في المنطقة لم تنجح في منح مواطنيها أملا بمستقبل افضل. في معظم الدول في المنطقة كان المواطنون يشعرون بان حكوماتهم لا تؤدي دورها كما ينبغي وتقيم نظاما يحرص لمقربيه، وبانعدام العدالة على نحو فظيع ان لم يكن بوحشية.
وجاءت التغييرات التكنولوجية لتجعل الوضع أكثر تعقيدا بكثير، إذ سمحت الشبكات الاجتماعية بالوصول الى معلومات جمة والى قوى كانت غافية أو مقموعة من اسماع رأيها والتأثير على الجمهور الغفير. وفقد الحكام السيطرة على المعرفة، وكذا قدرة التلاعب والقدرات الاستخبارية التي استخدموها لسنوات عديدة جدا في كل ارجاء الشرق الاوسط.
والى جانب ذلك تغيرت الولايات المتحدة ايضا. فالاقليات اصبحت أغلبية. والاقتصاد يتعثر والفوارق بين الطبقات اتسعت، والدفع بالدم في الحروب في العراق وفي افغانستان قلص الاستعداد لمزيد من الحروب، والتعلق بالطاقة من الشرق الاوسط قل على نحو شبه تام واعلن الرئيس الامريكي عن نقل مركز الثقل الى المحيط الهاديء.
عندما يقلص “الشرطي الاقليمي” تواجده تتغير نظرة كل مراكز القوى. فالايرانيون والاسلام المتطرف يحاولون استغلال غياب الولايات المتحدة والتعزز على حساب الدول التي بقيت كاملة بعد عاصفة الربيع العربي” بينما تبحث هذه الدول السنية عن تعزيز الوضع الراهن.
التفكير بطريقة مختلفة
يقف اصحاب القرار الان امام عالم جديد. علام تكون فيه المنظمات اقوى من الدول، والولايات المتحدة لا تؤدي دورها كما في الماضي والعديد من الامريكيين يحتجون على النظام السياسي في بلادهم. يدور الحديث عن عالم ينجح فيه الشيعة لانهم القوة الدينامية. وثمن النفط يتدهور، والدول الغنية في الخليج في حالة ضغط، والاسلام الراديكالي السني ينجح في الاحتفاظ بمساحة كبيرة بين العراق وسوريا – في سيناء وفي ليبيا. هذا عالم الامر الاهم فيه لاوروبا هو وقف موجة اللاجئين. في عالم كهذا لا تعمل فيه القواعد القديمة، والقواعد الجديدة لم تتشكل بعد. وعليه، فان تجربة الماضي تكون ذات صلة اقل في فهم المستقبل. والمنطقة البسيط لا ينجح دوما (مثلا، القاعدة التي تقول عدو عدوي صديقي – لم تعد سارية المفعول). وعندما يكون كل شيء تقريبا مختلفا عما كان في الماضي، فانه يتوجب التفكير والتصرف بطريقة مختلفة – وبالاساس الا يكون المرء متهورا.
اسرائيل اليوم 28/4/2016
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews