أكذوبة القومية اليهودية
”صيرورة الأشياء، والنشأة الطافرة “للدولة الإسرائيلية الصهيونية” تتطلب بالضرورة إدامة الارتكاز الصهيوني على فكرة (الدين) والتغذي من وعاء الميثولوجيا التوراتية، لتصبح الصهيونية عقيدة سياسية تجسّدت في ممارسة تاريخية ذات أهداف محدّدة تمثّلت في إنشاء “دولة إسرائيل” على أسس دينية عنصرية استعمارية استيطانية إجلائية.”
استطاعت الحركة الصهيونية بلورة المشروع الاستيطاني الكولونيالي في خطوات أوصلتها لانتزاع وعد بلفور المشؤوم وما ترتب عليه منذ نهايات القرن التاسع عشر. فالحركة الصهيونية، كجسم سياسي مُنظم، هي من صنع تيودور هيرتزل (1860 ـــ 1904) اليهودي المجري، الذي نَشَرَ في سنة 1896 كتابه “دولة اليهود”، وعرض فيه مفهومه لجذور “المسألة اليهودية”، وبالتالي وجهة نظره في حلها، عبر إنشاء “أمة يهودية” مُستقلة، على أرضٍ تمتلكها. والمنظمة التي أسسها في المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897 كانت من أجل تحقيق ذلك الهدف، ومن خلالها تحرك هيرتزل بين التجمعات اليهودية في أوروبا، كما على الساحة السياسية الدولية، داعيًا إلى مشروعه، حيث تلقفته القوى الدولية الكبرى في حينها لأغراضٍ سياسية، وزدوته بجرعات عالية من الدعم والإسناد والتسهيل.
رأى تيودور هيرتزل في المحصلة المسألة اليهودية قضية دولية، وعليه، يجب حلها في هذا الإطار، ومن على منبر السياسة الدولية. وادعى أن مسألة اليهود في العالم تَخُص جميع شعوبه، وبالتالي فعلى الأمم المساهمة في حلها، وواجبه هو وضع المسألة في جدول أعمال السياسة الدولية، لبناء وطن قومي لليهود على أي بقعة أرضٍ مناسبة.
إن فلسفة تيودور هرتزل قامت على محاولاته لتشكيل واصطناع “أمة وقومية يهودية” تجمع اليهودي الأوروبي الأبيض، مع اليهودي العربي الحنطي اللون، إلى جانب اليهود الفلاشا من الزنوج، وهو ما يتناقض مع فكرة الأمة والقومية، ومع حقائق المنطق والتاريخ. كما أن اليهودية ديانه، وليست قومية بأي حالٍ من الأحوال.
لقد أدرك مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل مُبكرًا، بأن الوجود اليهودي التقليدي بتنوعه القومي المُبعثر في كيانات ومنظومات في دولٍ مختلفة بين آسيا وأوروبا الشرقية والغربية، وقسم من القارة الأميركية في الشمال (الولايات المتحدة، كندا ..) وفي الجنوب (الأرجنتين، البرازيل ..) لايمكن تجميعه وصهره في بوتقة واحدة دون ابتداع أشكال من اصطناع “النظريات المُفتعلة”. وعليه نجحت صهيونية تيودور هرتزل في لحظة تاريخية ومناخ مناسب لها في “اصطناع قومية يهودية مُفتعلة، فكانت وليد طفرة جانحة كرستها في العرف الدولي الراهن كقومية متحررة من الهيكلية المبعثرة”.
لكن صيرورة الأشياء، والنشأة الطافرة “للدولة الإسرائيلية الصهيونية” تتطلب بالضرورة إدامة الارتكاز الصهيوني على فكرة (الدين) والتغذي من وعاء الميثولوجيا التوراتية، لتصبح الصهيونية عقيدة سياسية تجسّدت في ممارسة تاريخية ذات أهداف محدّدة تمثّلت في إنشاء “دولة إسرائيل” على أسس دينية عنصرية استعمارية استيطانية إجلائية، فليس من السهل تشبيه الصهيونية، كعقيدة سياسية، بسائر العقائد السياسية كالشيوعية والرأسمالية. ومن هنا فقد واجهت “إسرائيل” إشكالية واضحة بالنسبة لهوية الدولة، فشهدت توترات وصراعات لعبت دورًا في خلق هذه الإشكالية، بسبب التنوع الثقافي والعرقي فيها، وزيادة حدة الاستقطاب بين الدينيين والعلمانيين.
وما إن وضعت الحرب تركة الإمبراطورية العثمانية على جدول الأعمال حتى تقدم اليهودي البريطاني الشهير (هربرت صموئيل) الذي اشترك في الوزارة البريطانية في تلك الفترة، وكان أول مندوب سامٍ بريطاني في فلسطين فيما بعد، تقدم بمشروع يقوم على ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية وزرع ثلاثة أو أربعة ملايين يهودي فيها، وبذلك يتحقق حلف وتشارك بين الفريقين: الحركة الصهيونية والغرب الاستعماري، في تحالف يخدم مصالح بريطانيا والغرب في نهاية المطاف.
من جهتها، وفي سياق تحالفاتها مع الغرب الأوروبي، بنت الحركة الصهيونية مداميك “أيديولوجيتها” على أساسٍ من الرواية الميثولوجية المُستندة للخرافة، فأحدثت التزاوج بين الأيديولوجيا والميثولوجيا، وطورتها من القبول بأي بقعة جغرافية في العالم (في أوغندا أو على أجزاء من الأرجنتين وغيرها) كوطن قادم “للشعب اليهودي” إلى المناداة باستعمار واستيطان أرض فلسطين باعتبارها “أرض الميعاد” لاستقطاب وجذب أوسع القطاعات من يهود أوروبا، وخصوصًا يهود أوروبا الشرقية، في بولونيا والبلطيق وروسيا وأوكرانيا، ودغدغة مشاعرهم الدينية… وطورت الحركة الصهيونية أيضًا حكاية تأسيسية مفادها أن “العالم كله ضدنا، ونحن وحدنا وبأيدينا سنقيم دولتنا”.
وحدا الحركة الصهيونية أن حاربت بقوة “اليهود الأرثوذكس” الذين كانت الحركة الصهيونية بالنسبة لهم محاولة كافرة لاستباق المسيح. وقد حاربها بالمقابل قطاعات من المثقفين اليهود في الغرب، الذين رأوا في الصهيونية محاولة خطرة لإشغال اليهود بشوفينية قد تَجلِبُ لهم الكوارث وتزعزع استقرارهم كمواطنين في دولهم وبلدانهم الأم، ودعوا اليهود للتحرر المدني والعمل للفوز بحقوق الأقليات الإثنية (وليس القومية) في التركز الإقليمي واللغة والثقافة. كما كان لليبرالية اليهودية المعارضة للاستعمار الكولونيالي موقفًا مماثلًا، فقد أيدت مبدأ حق تقرير المصير الذي يَمنح السيادة لمجموعات الأغلبية القومية، وفقًا لهذا المبدأ فإن فلسطين تعود للفلسطينيين في نظرهم.
وفي إطار برامجها وخططها، اشتقت الحركة الصهيونية سياسة براغماتية عالية المرونة، وآمن أبرز دعاتها ومنظريها بسياسة المراحل والخطوة خطوة، فدعا (ديفيد بن جوريون) أول رئيس وزراء في “إسرائيل” للاستيلاء على فلسطين دونمًا بعد دونم، وشجرة بعد شجرة، وكان قد دعا من قبله أحد أبرز عتاة الصهيونية فلاديمير جابتونسكي لحلول مرحلية مع الفلسطينيين والتشارك معهم في دولة وكيان واحد كحل مرحلي يُمكّن اليهود من الإجهاز اللاحق على الفلسطينيين. إلا أن التطورات التي عَصَفت بالأوضاع الدولية وانتصار الحلفاء في الحرب الكونية الثانية، وتَفَكُك الحالة العربية، وعجزها عن مواجهة سياسة الأمر الواقع الاستيطانية التي صنعتها بريطانيا وسلطات الانتداب على أرض فلسطين، دفعت غلاة الصهاينة للتشدد أكثر فأكثر، والإيغال في عمليات التطهير العراقي. وفي الوقت الحاضر نلحظ السمات ذاتها للسياسة التي زرعها وكرسها رُسل الحركة الصهيونية، فحكومات الكيان الصهيوني المُتعاقبة مازالت تواصل نهجها القائم على المراحل في تمويت عملية التسوية مع الفلسطينيين، وإحداث الابتلاع التدريجي للأرض الفلسطينية بعمليات التغيير الديمغرافي، تارةً بوتيرة بطيئة، وتارةً بوتائر أسرع، طبقًا لبارومتر الحالة السياسية الدولية والإقليمية.
(المصدر: الوطن العمانية 2016-04-22)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews