لبنان والصدمات الاقتصادية .. والحلول المقترحة
لا يزال لبنان تحت التأثير السلبي لسلسلة الصدمات الكبيرة التي أصابت المنطقة. وكانت أهم صدمة في السنوات القليلة الماضية هي أزمة اللاجئين من سورية ــــ البلد الذي يشترك معه لبنان في معظم حدوده. ويمثل اللاجئون السوريون قرابة الثلث من سكان لبنان، حيث بلغت أعدادهم مستوى مذهلا تجاوز الآن المليون نسمة. وينطوي هذا الوجود على مغزى كبير، خاصة عند مقارنته بالتدفقات التي توافدت إلى البلدان الأوروبية أخيرا واحتلت العناوين الرئيسة في عديد من وسائل الإعلام. ولم تقتصر تبعات هذا الوجود الكبير من اللاجئين على التأثير الذي لحق بالاقتصاد اللبناني، ولكنها أثرت أيضا في النسيج الاجتماعي والمشهد السياسي في البلاد. فقد سجل النمو تراجعا حادا من متوسط 8 في المائة في الفترة 2008 - 2010 إلى نحو 1 في المائة في 2015. وإضافة إلى ذلك، تعرضت قطاعات الاقتصاد التقليدية ــــ العقارات والبناء والسياحة ـــ لأضرار كبيرة، ولا سيما في عام 2015. كذلك ترسخت أجواء الجمود السياسي، حيث لا يزال لبنان دون رئيس منذ قرابة عامين. وما دامت الأزمة في سورية باقية دون حل، فإن احتمالات التعافي المتواصل في لبنان ستظل محدودة، كما ستظل ثقة المستهلكين والمستثمرين ضعيفة. وبالنظر إلى خارج المنطقة، نجد أن تصاعد أسعار الفائدة في الولايات المتحدة سيؤثر سلبا أيضا في تكلفة التمويل وخدمة الدين في لبنان، نظرا لربط سعر صرف الليرة بالدولار الأمريكي. وعلى الجانب الإيجابي، أعطت أسعار النفط المنخفضة دفعة تستحق كل الترحيب لمستويات الدخل في لبنان، ولكنها لا تكفي لمواجهة الأوضاع الإقليمية والمحلية المناوئة.
من واقع عملي كرئيس لبعثة الصندوق إلى لبنان أتولى قيادة فريق الخبراء المسؤول، سواء داخل المقر الرئيسي للصندوق في واشنطن العاصمة وفي لبنان. وخلال زياراتنا إلى لبنان، نستعرض آخر التطورات الاقتصادية ونجري تقييما لآفاق الاقتصاد الكلي ونقدم المشورة بشأن السياسات. ولتحقيق كل هذا، نلتقي مجموعة متنوعة من الأطراف المعنية لتعميق فهمنا للأوضاع على أرض الواقع وتبادل الآراء ووضع توصيات فاعلة على مستوى السياسات. وإلى جانب لقاءاتنا مع ممثلي وزارة المالية ومصرف لبنان، وهم نظراؤنا التقليديون، نلتقي أيضا ممثلي الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع الدولي، كما نلتقي كبار المسؤولين في القطاع المصرفي نظرا للدور الحيوي الذي يسهم به هذا القطاع في الاقتصاد اللبناني. ومن الضروري أن يلتقي فريق البعثة أكبر عدد من الأطراف المعنية، نظرا لما تتسم به القضايا المعنية في كل بلد من جوانب متعددة ومتشعبة، ما يتطلب اتباع منهج مدروس بعناية ومصمم لمراعاة كل حالة على حدة. ولإعطائكم فكرة عن برنامج عملنا، فقد عدنا لتونا من زيارة إلى لبنان في أوائل شباط (فبراير) 2016 ونستعد حاليا لإجراء ما يعرف باسم "مشاورات المادة الرابعة"، حيث من المقرر إيفاد بعثة إلى لبنان في أيار (مايو) 2016. وسنقوم بعد ذلك بإعداد تقرير الخبراء لعرضه على المجلس التنفيذي خلال الصيف، ومن المحتمل نشره لاحقا.
يتوقف استقرار أوضاع الاقتصاد الكلي في لبنان بصورة حاسمة على تحقيق الأمن واكتساب الثقة. ويرجع للسلطات اللبنانية الفضل في حفظ الأمن في ظل بيئة إقليمية تكتنفها التحديات. وسيكون ترسيخ مشاعر الثقة عاملا حيويا أيضا في مواصلة اجتذاب التدفقات الرأسمالية الكبيرة "الودائع والتحويلات والاستثمار المباشر" إلى الاقتصاد وتغطية احتياجات لبنان الكبيرة من التمويل. وفي هذا الصدد، تبرز ثلاثة مجالات من مجالات السياسة الاقتصادية. يتمثل المجال الأول في العمل على تهيئة المناخ الداعم لزيادة فرص العمل وتعزيز النمو. ففي كل عام تهاجر نسبة كبيرة من قوة لبنان العاملة ذات المهارات العالية إلى الخارج نتيجة لعدم كفاية فرص العمل. ونحن نسعى لتقديم أمثلة من البلدان التي قامت بتنفيذ الإصلاحات كي يتمكن لبنان من الاستفادة على نحو أفضل من رأسماله البشري الكبير.
والمجال الثاني هو ضرورة تصحيح أوضاع المالية العامة لتخفيض مواطن الضعف الاقتصادي ووضع المديونية على مسار قابل للاستمرار ـــ فالدين العام يقترب من 140 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وفي غياب أي تدابير تصحيحية من المتوقع أن يزداد أكثر. والدين العام الكبير ينطوي أيضا على تكلفة باهظة ـــ حيث تستهلك مدفوعات الفائدة حاليا ثلثي الإيرادات الضريبية الكلية، أو أكثر من 9 في المائة من إجمالي الناتج المحلي؛ ومن الممكن توجيه هذه الموارد فعليا إلى استخدامات منتِجة. ولا شك أن ضبط أوضاع المالية العامة ليس مما يقابل بالتأييد الشعبي ولا هو سهل التنفيذ، خاصة في بيئة يسودها النمو المنخفض والارتفاع الكبير في احتياجات الإنفاق، وأبرزها للخدمات العامة والبنية التحتية. ومن ثم فإننا نحرص على اتباع منهج بناء عن طريق اقتراح التدابير التي تساعد على التخفيف من حدة الآثار السلبية المحتملة على النمو نتيجة ضبط أوضاع المالية العامة. وعلى سبيل المثال، هناك مناخ سائد يتسم بانخفاض شديد في أسعار النفط، ما يتيح للبنان فرصة فريدة لزيادة الإيرادات ـــ بعد تراجعها بما يقارب 3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي منذ عام 2011. كذلك تم تخفيض ضرائب الوقود أو إلغاؤها عندما كانت أسعار النفط شديدة الارتفاع في 2011 ــ2012 وينبغي الآن زيادتها لمواكبة الأسعار العالمية الراهنة. ولن يقتصر توليد وتحصيل مزيد من الإيرادات على المساعدة في خفض عجز الموازنة لكنه سيوفر أيضا حيزا ماليا لتنشيط برامج الإنفاق التي طالها الإهمال. ومن أمثلة ذلك الاستثمار العام ـــ الذي يبلغ حاليا مستويات متدنية لا تتجاوز 1.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وبهذا نصل إلى المجال الثالث من مجالات السياسة الاقتصادية. فمع الانخفاض البالغ في الاستثمار العام، إلى جانب أمور أخرى، أصبح لبنان في أمس الحاجة لتطوير شبكة البنية التحتية القاصرة، التي تتعرض حاليا لزيادة الضغط عليها نتيجة وجود أعداد كبيرة من اللاجئين. ويمكن زيادة الاستثمار في البنية التحتية أيضا بزيادة إشراك القطاع الخاص ـــ فلا شك أن لبنان لديه قدر وفير من رأس المال المالي والبشري للقيام بهذه المهمة. وستتطلب مشاركة القطاع الخاص إجراء إصلاحات تنظيمية لتعزيز الإطار القانوني في لبنان، مثل تشجيع "شراكات القطاعين العام والخاص" بأسلوب سليم وشفاف "علما بأن هناك قانونا إطاريا ينتظر إقرار البرلمان منذ بضع سنوات". وهذه ليست سوى مجرد أمثلة قليلة على المبادرات التي يمكن اتخاذها؛ ففي ظل بيئة النمو المنخفض حاليا يمكن تحقيق فرق كبير بالقليل من التغييرات الملموسة على مستوى السياسة.
لقد أتاح لي العمل في الصندوق منذ ما يقرب من 21 عاما فرصة فريدة للعمل مع مجموعة كبيرة من البلدان والتركيز على مجموعة متنوعة من القضايا. ومما تعلمته في تلك السنوات أنه من المهم لخبراء الصندوق أن يضعوا أنفسهم محل السلطات الوطنية حتى يتعمقوا في فهم طبيعة القيود التي تواجهها عند إجراء الدراسات التحليلية ووضع التوصيات بشأن السياسات. ونحن نعمل، في نفس الوقت، على إضافة منظورات دولية للقضايا المطروحة، ونسعى لاستخدام أمثلة ناجحة ـــ وغير ناجحة ــــ في بلدان أخرى تمر بالظروف نفسها. ونعمل على تحقيق ذلك بأسلوب بناء وجدير بالاحترام، رغم صعوبة رسالتنا في بعض الأحيان. ومن المهم أن نحاول الإبقاء على باب الحوار مفتوحا مع نظرائنا وأن نواصل العمل من أجل التوصل إلى أرضية مشتركة وفهم مشترك.
لقد أتيحت لي خلال سنوات عملي الأولى في الصندوق فرصة العمل كاقتصادية مبتدئة ضمن فريق الاقتصاديين المختصين بلبنان. واليوم، بعد مرور 15 عاما، عدت إلى هذا البلد الذي شهد تغيرات كبيرة منذ زيارتي الأولى. ولا أزال أشعر بالإعجاب الآن وبقدر إعجابي نفسه سابقا بمدى اعتزاز اللبنانيين ببلدهم وإيمانهم به؛ وبمدى قدرة لبنان على الاحتفاظ بصلابته على الرغم من عديد من الصدمات التي عصفت به على مر السنين. وبصفتي رئيس بعثة الصندوق، آمل أن أتمكن من مواصلة العمل البناء مع السلطات لمساعدة لبنان، هذا البلد الصغير ذي القدرات العالية، على جني الثمار الكاملة لإمكاناته الهائلة.
(المصدر: الاقتصادية 2016-03-19)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews