قضية الصحراء.. وزلة بان كي مون
أمام الوضعية المأزومة التي وصل إليها ملف قضية الصحراء، نتيجة استحالة تطبيق خيار الاستفتاء، وازدياد المخاوف من انهيار اتفاقيات وقف إطلاق النار المبرمة بين الجانبين (المغرب والبوليساريو) وإمكانية اندلاع مواجهة عسكرية بين الطرفين من جديد، بعد استقالة مبعوث الأمين العام الأممي السابق المكلف بملف القضية «جيمس بيكر»، كان من اللازم والضروري البحث عن سبل جديدة تمكن من إيجاد حل يحظى بموافقة الطرفين.
فالأمم المتحدة لم تخف رغبتها في الإسراع بإيجاد حل لهذه المعضلة التي كلفتها كثيراً من الوقت والإمكانات، كما أن بعض القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة وبعض دول أوروبا، أصبحت مقتنعة تمام الاقتناع، بأن مواجهة «الإرهاب» وظاهرتي الهجرة السرية واللجوء، تتطلب احتواء مناطق التوتر ومواجهة الانفلاتات الأمنية وبخاصة بعد تدهور الأوضاع في ليبيا وتمركز العديد من الجماعات المسلحة في منطقة الساحل وشمال إفريقيا.
في ظل هذه الأجواء التي طبعها الجمود، قام المغرب بطرح مبادرة الحكم الذاتي، كاقتراح يستلهم عمقه من تجارب دولية أثبتت نجاعتها على مستوى تدبير العديد من الصراعات الإقليمية أو العرقية المزمنة وتحقيق التنمية.
والحكم الذاتي هو نظام يستمد مقوماته من القانون الدستوري للدول، اعتمدته العديد من الدول كسبيل لتحقيق التنمية ولتدبير الاختلافات العرقية أو الثقافية.. داخل بعض الأقاليم، عبر منحها استقلالاً لممارسة مجموعة من الصلاحيات في إطار لامركزية سياسية، تحت إشراف السلطة المركزية، الأمر الذي يجعل منه حلاً توفيقياً يوازن بين مطالب الاستقلال من جهة ومطالب فرض السيادة الكاملة من جهة أخرى.
ويبدو هذا الطرح موضوعياً وواقعياً إذا ما استحضرنا أن العديد من المبادئ التي أقرها القانون الدولي من قبيل عدم التدخل في الشؤون الداخلية والمساواة في السيادة.. تطورت ولم تعد بالقداسة والصرامة التي كانت عليها سابقاً، نتيجة لمجموعة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أفرزها تطور العلاقات الدولية في العقدين الأخيرين.
ولأن القانون الدولي يدعم وحدة الدول، وأخذاً في الاعتبار بأن المبالغة والانحراف في توظيف مبدأ تقرير المصير بصورته التقليدية بشكل مبالغ فيه سيخلق حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار الدوليين، وبخاصة أن الكثير من دول العالم تحتضن مجموعات إثنية وعرقية ودينية وثقافية مختلفة تتعايش بصورة بناءة وسليمة داخل المجتمع، فقد دان مجلس الأمن محاولة الانفصال لإقليم «كاتانغا» الغني بثرواته المعدنية في سنوات الستينات من القرن المنصرم.
إن الانفصال هو مظهر من مظاهر متعددة لممارسة حق تقرير المصير، لكن هناك سبلاً أخرى تجد أساسها في القانون الدولي بإمكانها تحقيق أهداف وغايات هذا المبدأ كنظام الحكم الذاتي القائم على الموازنة بين الرغبة في الاستقلال والمحافظة على الوحدة في آن واحد.
وتشير الممارسة الدولية (حالة السودان مثلاً) إلى أن إحداث دويلات هشة، يسهم بشكل كبير في تفتيت الدول وخلق أجواء من التوتر والفوضى وعدم الاستقرار الإقليمي والدولي.
ولعل هذا ما دفع المبعوث الأممي السابق إلى الصحراء «فان فالسوم» الذي تابع تطورات الملف ووقف على خلفياته لأكثر من ثلاث سنوات، إلى التعبير صراحة ضمن أحد تقاريره المقدمة إلى مجلس الأمن عن عدم واقعية إنشاء كيان مستقل في الصحراء.
لقد لقي مشروع الحكم الذاتي الذي طرحه المغرب ترحيباً كبيراً من قبل الساكنة، وأتاح لعدد من النخب الصحراوية العودة إلى البلاد، كما لقي استحساناً كبيراً من قبل مجموعة من دول العالم، بما فيها بعض القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا.. وهو استحسان يترجم الشعور بواقعية وموضوعية هذه المبادرة، وبخاصة وأن المجتمع الدولي أصبح أكثر وعياً واقتناعاً بأهمية وضرورة حسم هذا المشكل الذي أضحى من بين أقدم النزاعات التي خلفتها مرحلة الحرب الباردة، وكلف شعوب المنطقة الكثير.. كما أن مجلس الأمن أشاد بدوره في عدد من قراراته ذات الصلة بالموضوع (القرارات 1754 و1783 و1813 و1920..) بهذه المبادرة واعترف بجديتها، كما ظل يؤكد أهمية التفاوض وضرورة بلورة حل مقبول لدى الطرفين.
وفي خضم هذه التطورات، جاءت تصريحات الأمين العام الأممي الأخيرة التي أكد من خلالها تفهمه «لغضب الشعب الصحراوي تجاه استمرار احتلال أراضيه»، لتعقد الملف من جديد وتطرح حيادية الموظف الأكبر للأمم المتحدة على المحك.
إن تصريحات «بان كي مون» تتجاوز في حقيقة الأمر صلاحياته ومهامه المحددة بموجب الميثاق الأممي من جهة أولى، وتناقض مضمون قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، باعتباره المسؤول الرئيسي (المجلس) عن حفظ السلم والأمن الدوليين من جهة ثانية. فالميثاق الأممي في مادته التاسعة يعتبر الأمين العام مجرد موظف إداري للهيئة، وبإمكانه تنبيه مجلس الأمن فقط إلى «مسألة يرى أنها تهدد حفظ السلم والأمن الدولي» (المادة 99)، وتمنع المادة 100 من الميثاق الأمين العام وموظفي الأمم المتحدة صراحة من «.. القيام بأي عمل قد يسيء إلى مراكزهم بوصفهم موظفين دوليين..».
كما أن قرارات مجلس الأمن ذات الصلة ثمنت جهود المغرب الجدية في سبيل التوصل لحل النزاع واستحسنت مقترح الحكم الذاتي كحل واقعي، مع الدعوة إلى استمرار التفاوض بين طرفي النزاع، وتوفير الشروط الداعمة لإنجاحها..
ويجسد خروج أكثر من مليوني متظاهر مغربي يوم 13 مارس حجم الاستنكار والرفض الذي قوبل به التصريح رسمياً وشعبياً.
إن استمرار التوتر في هذه المنطقة لن يكون في صالح أي طرف، فخيار التسوية السلمية والبحث عن حل واقعي مقبول لدى الطرفين يفتح آفاقاً واسعة من التنسيق والتعاون، تفرضه التحديات الدولية الراهنة التي تؤكد يوماً بعد يوم أن مناطق التوتر والصراع، تفرز تداعيات اجتماعية وسياسية واقتصادية.. خطرة تتجاوز الحدود.
لقد فوت المشكل فرصاً عديدة على المنطقة المغاربية برمتها، فهو أثر بشكل سلبي ملحوظ في مسيرة الاتحاد المغاربي في زمن أصبح فيه التكتل خياراً استراتيجياً ملحاً، وأسهم في تنامي المشاكل بين المغرب والجزائر.. كما كانت كلفته الاقتصادية على دول المنطقة ضخمة جداً.
(المصدر: الخليج 2016-03-18)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews