عندما تستنجد الموازنة بالمؤسسات المملوكة للدولة!
ننام ونصحو منذ عدة سنوات على حديث لا ينقطع عن مشكلة عجز الموازنة العامة للدولة. كل مواطن فى مصر صار يعرف أن إيرادات الحكومة لا تكفى لتغطية مصروفاتها وأنها تضطر للاقتراض لتغطية العجز وسداد أقساط القروض القديمة. كل مواطن صار يعرف أن الحكومة المصرية مثقلة بالديون. تقديرات الدين العام للسنة المالية الحالية تصل إلى 6ر2 تريليون جنيه. فوائد الديون صارت تبتلع وحدها أكثر من 39% من إيرادات الموازنة العامة، وتتنافس على الموارد اللازمة لتوفير خدمات الصحة والتعليم والمياه و الكهرباء والصرف الصحى وشبكة الطرق والدفاع والأمن والحرب على الإرهاب، ناهيك عن متطلبات إعادة إحياء وتشغيل مشروعات القطاع العام التى لا تزال مملوكة للدولة.
كأى مدين مثقل بالديون تسعى الحكومة إلى تخفيض مصروفاتها والبحث عن مصادر جديدة للإيرادات. الرسالة التى تبعث بها الحكومة دوما هى أن المؤسسات المملوكة للدولة تمثل عبئا على الموازنة العامة، بحيث يصبح التخلص من هذا العبء إحدى السبل المنطقية لتخفيض عجز الموازنة العامة، وتخفيض الحاجة إلى الاستدانة.
الغريب أن متابعة تفاصيل الضرائب العامة على الدخول والأرباح فى الموازنة العامة للسنة المالية الحالية تكشف أن الجزء الأكبر من حصيلة تلك الضرائب يأتى من المؤسسات المملوكة للدولة ممثلة فى قناة السويس والهيئة العامة للبترول والبنك المركزى المصرى وبنوك القطاع العام. فعلى الرغم من أن القطاع الخاص يسهم بنحو 65% من الناتج المحلى الإجمالى فإن نصيبه من إجمالى الضرائب العامة لا يزيد كثيرا على 27%. بل إن تقديرات الموازنة العامة للدولة تؤكد حقيقة مذهلة مؤداها أن ما يدفعه الموظفون من ضرائب يبلغ أضعاف ما يدفعه أصحاب الأعمال الحرة. ضريبة الرواتب وما فى حكمها تبلغ 27.4 مليار جنيه، فى حين أن الضريبة على الأفراد أصحاب النشاط التجارى والصناعى لا تزيد على 14 مليار جنيه. أما الضريبة على الأفراد أصحاب المهن غير التجارية وعلى رأسهم المحامون والمحاسبون والأطباء والفنانون ...الخ لا تزيد على 1.6 مليار جنيه!.
تفاصيل الموازنة توضح أيضا أن الحكومة قد استنجدت بالمؤسسات المملوكة للدولة للحصول على إيرادات إضافية خلال السنة المالية الحالية، بحيث تم إلزام جميع الهيئات العامة الخدمية والاقتصادية والقومية بتحويل 25% من رصيد فوائضها المرحلة إلى الخزانة العامة (مادة 12 من قانون ربط الموازنة للسنة المالية 2015/2016). كما تم إيجاد آلية منتظمة لسداد جزء من أرباح البنك المركزى للخزانة العامة عن نشاطه، خلال العام ذاته، بدلا من انتظار سدادها بالكامل خلال العام التالي. وبناء على تلك الإجراءات، تضمن مشروع الموازنة تحويل فوائض أرباح جملتها 102 مليار جنيه إلى الخزانة العامة، تتضمن كلا من قناة السويس والبنك المركزى المصرى والهيئة العامة للبترول وشركات قطاع الأعمال العام وشركات القطاع العام والهيئات الاقتصادية الأخري، وتمثل قيمة تلك الفوائض نحو 52% من جملة الإيرادات العامة غير الضريبية.
يا قوة الله.. إذن المؤسسات المملوكة للدولة ليست مجرد عبء ثقيل يجب أن ندعو الله كى يخلصنا منه ومن مشكلاته. هذه المؤسسات هى المصدر الرئيسى للضرائب على الدخل، كما أنها عند الشدة هى الملاذ الأخير الذى تلجأ إليه الخزانة العامة للحصول على موارد إضافية. بل إنه حتى على صعيد التبرعات الاختيارية، وكما أشار السيد رئيس الجمهورية فإن مؤسسة الجيش قد أسهمت وحدها بأكثر من 21% من حصيلة التبرعات لصندوق تحيا مصر. أما فيما يتعلق بالمبالغ التى تدرج فى الموازنة باعتبارها إعانات أو دعما يقدم لبعض مؤسسات الدولة، فإن الأمر يحتاج إلى كثير من التدقيق وتسمية الأشياء بمسمياتها. فلا يعقل الإيحاء، على سبيل المثال، بأن الخزانة العامة تقدم دعما لصناديق المعاشات بنحو 52.5 مليار جنيه، فى حين أن وثائق الموازنة توضح أن تلك المبالغ تمثل جزءا من المديونية المستحقة لصناديق المعاشات طرف وزارة المالية، والتى تعهدت الخزانة العامة بسدادها نقدا وبشكل منتظم!.
فى كل الأحوال فإن الحقيقة الواضحة للعيان هى أن إعادة هيكلة الهيئات العامة ومشروعات القطاع العام التى تعمل بربع طاقتها الكاملة، تمثل ضرورة لا غنى عنها لرفع معدلات النمو، وزيادة معدلات التشغيل، وتخفيض الواردات، وزيادة موارد الموازنة العامة للدولة. الأداء الكفء للمؤسسات المملوكة للدولة يعنى قدرتها على تغطية مصروفاتها دون الاقتراض من الخزانة العامة، وتحقيق فوائض تمول منها توسعاتها وخطوط إنتاجها الجديدة، وتحصل عنها الدولة ضرائب.
نحن نعلم أن إعادة إحياء العديد من المشروعات العامة تتطلب بالفعل ضخ رءوس أموال لمواجهة احتياجات التطوير وإعادة الهيكلة وتحديث الآلات والمعدات. لو خرجت علينا الحكومة تقول إن لديها خطة واضحة المعالم بتوقيتات محددة لإعادة هيكلة المشروعات العامة، وإدارة مختلفة تتمتع بالكفاءة والنزاهة، وأنها تطلب من الشعب الاكتتاب فى توفير التمويل اللازم لسداد المديونيات القائمة على تلك المشروعات العامة وتدعيم رءوس أموالها، لقلنا لها ألف مرحبا، وسارعنا بالمشاركة.
باختصار.. إعادة هيكلة وتشغيل مشروعات القطاع العام بطاقتها الكاملة تمثل سبيلا رئيسية لخفض عجز ميزان التجارة، وتوليد فائض وإيرادات ضريبية تسهم فى تخفيض عجز الموازنة العامة، وهو ما يؤدى إلى زيادة المدخرات المتاحة للاستثمار وتخفيض معدلات البطالة ورفع معدلات النمو. وإذا كان القطاع العام هو السند الذى تلجأ إليه الدولة وقت الشدة، فيجب أن يكون هذا السند قويا، فتيا، وكفؤا.
(المصدر: الاهرام 2016-02-28)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews