تقييم الربيع العربي بأثر رجعي
خمسُ سنوات مرت على اندلاع ثورات الربيع العربي، الآن ومن هذه المسافة الزمنية يسهل علينا إطلاق الأحكام عليها، برؤية أكثر وضوحا، وأكثر عقلانية، الكثير منا اعتبرها كارثة حلّت على الأمة، جلبت معها الدمار والحروب الأهلية، وأطلقت مارد الطائفية من قمقمه، والبعض الآخر اعتبرها بداية التغيير، الذي سيؤتي أوكله بعد حين .. البعض اعتبرها مؤامرة غربية حيكت بليلة ظلماء على يد "برنارد ليفي" وغيره، فيما رآها آخرون نتاجا حتميا لعقود من الظلم والفساد والقمع السلطوي. من بين ملايين الناس الذين استبشروا خيرها بها، وكتبوا عنها مديحا، من بعد ذلك، ولكثرة ما سمعنا عن ذمها؛ بشيءٍ من الحرج، بتُّ أراجع ما كُتب عنها آنذاك، فاتحا سيلا من الأسئلة: هل كنا متفائلين أكثر من اللازم؟ أم قرأنا المرحلة بطريقة خاطئة؟ هل انطلت علينا الحيلة، وصفقنا مع الغوغاء والمضلَّلين؟ أم أننا استعجلنا قطف الثمار قبل أوانها؟ مثل هذه الأسئلة، وهذا التراجع في الموقف الشعبي من الربيع العربي، جاء نتيجة خيبة الآمال من تحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ونتيجة الصدمة من صعود قوى الإسلام السياسي وتسلمها السلطة في أكثر من بلد، ونتيجة ممارسات عديدة مرفوضة، سواء من قبل الثوار كالعنف غير المبرر وأعمال الانتقام، أو من قبل السلطات الحاكمة الجديدة، التي فجعت الجماهير بأدائها الهزيل والمثير للجدل. على أية حال، مهما اختلفنا في إجاباتنا وآرائنا، لا بد من التسليم ببعض الحقائق الموضوعية التي جعلت خروج الجماهير عن صمتها آنذاك أمرا طبيعيا؛ فهذه الثورات لها إرهاصاتها ومقدماتها التاريخية، وأسبابها الموضوعية، ولم تكن قطعا فجائيا مع مراحل تاريخية سابقة؛ بل جاءت تتويجا لمسار نضالي وشعبي له عناوينه الواضحة وحيثياته المعروفة، جاءت بعد تراكم ونضوج عواملها الذاتية والموضوعية، فأتت بفعل إرادة شعبية خالصة، وكانت أهدافها تنحصر في إسقاط الأنظمة التي ضربها العفن، وبانت فضائحها على نحو مستفز، وجلبت لشعوبها الخراب والفقر والبطالة، وحرمتها من أبسط حقوقها، وجعلت بلدانها في قاع السلم الحضاري بين شعوب الأرض. إلا أن هذه الثورات أخفقت (في المدى المنظور) في تحقيق أهدافها، ربما لأنها جاءت عفوية، وكانت بلا قيادة، ودون نظرية ثورية أو إستراتيجيات وتخطيط، أو لأن قوى خارجية دخلت عليها وسرقتها، أو لأن الأنظمة الحاكمة بتركيبتها العميقة الموغلة في تفاصيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية تمكنت من إفراغها من مضامينها، أو لأن الدول الكبرى نجحت في احتوائها وحرفها عن مسارها .. وربما لجميع الأسباب السابقة أو بعضها .. اليوم، التهمة الجاهزة لهذه الثورات: أنها كانت في الأساس بتخطيط غربي، بدليل النتائج التي وصلت إليها، ولكن، لا يعني وجود تقاطعات معينة في بين أهداف الشعوب العربية ومخططات الدوائر الغربية أنها تطبيق لهذه المخططات، والتاريخ مليء بالأمثلة التي كانت تلتقي فيها مصالح وأهداف جهات متناقضة ومعادية لبعضها البعض دون أن يعني ذلك أنها مؤامرة بالمعنى الحرفي للكلمة. وكون أن هذه الثورات لم تنتصر بالمعنى الإستراتيجي فهذا لا يعيبها؛ فليس شرطا أن تنتصر كل ثورة لمجرد أن أهدافها عادلة، وثوارها مخلصون؛ فالتاريخ يخبرنا بأن العديد من الثورات الشعبية تمت سرقتها على أيدي قوى لم تكن مشاركة بها، أو أنه تم حرفها عن مسارها. والحديث عن الثورات العربية بوصفها صنيعة المخابرات الغربية، وأنها تأتي في سياق مخططات أميركية تهدف إلى إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية على نحو جديد يخدم المصلحة الأميركية أساسا، هو تقليل من شأن هذه الثورات، وهو تعدٍ على تضحياتها وشهدائها، واستخفاف بإرادة الشعوب، وقبل كل هذا هو فهم مغلوط لمنطق التاريخ، وتفسير مشوه ومنقوص للحقبة التاريخية بأكملها. فالذين فهموا ثورات الربيع العربي انطلاقا من نظرية المؤامرة، واستنادا إلى نظريات الفوضى الخلاقة، أو صراع الحضارات، إنما هم يمعنون في تصورات متخيلة في أذهانهم، هي في الحقيقة مجرد وهم، أو صورة مشوشة، أو أنهم أرادوا إسقاط هذه النظريات وغيرها على الواقع، بعد أن ظهرت نتائج الربيع العربي على نحو خيّب آمالهم، أو معاكسا لما كانوا يريدونه. والقول بأنها ثورات شعبية، خرجت من رحم المعاناة، وجرت أحداثها في الشوارع والميادين العربية على أيدي شبان مخلصين .. لا يعني الاطمئنان على مصيرها، سيما وأنها بلا قيادة واضحة، ومعظم قياداتها الشبابية بلا خبرة كافية، وحيث أن نظرية الفوضى الخلاقة تعتمد في أسلوبها على خلق تيارات فكرية متعددة ضمن إطار الديمقراطية، ومنها فكرة الإسلام المعتدل، الذي يوافق أفكار الغرب ولا يتصادم معها. كل هذه الخلافات في الرأي مقبولة، لكن الخطير وغير المقبول التشكيك في مشروعية الثورة نفسها، والتشكيك في مشروعية أهدافها في الحرية والعدالة الاجتماعية، أو النظر للديمقراطية (التي ارتبطت بشكل أو بآخر بأهداف الثورات العربية، وبطبيعة الأنظمة التي أعيد تشكيلها) على أنها غير مناسبة للبيئات العربية، أو أن الشعوب العربية غير مهيأة للعيش في كنف أنظمة ديمقراطية. ولوضع الربيع العربي في سياقه التاريخي، ومحاولة استشراف المستقبل، ينبغي مقارنته بالثورات التي حصلت في بعض الدول الأوروبية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، خاصة بسبب تشابه المقدمات والنتائج في الحالتين. الكاتبة "آن أبليبام" اعتبرت أن أفكار الليبرالية القومية والديمقراطية التي ألهمت الطبقة الوسطى الأوروبية للقيام بثوراتها عام 1848، تشبه تماما ما حدث مع مثيلاتها العربية قبل الربيع العربي. لكن ثورات 1848 انتهت جميعها بالفشل آنذاك؛ رغم أنها بلغت لحظة انعطاف تاريخية، إلا أن هذا المنعطف مُني بهزيمة؛ ومع ذلك فأن تلك الثورات كانت قد أسست لنجاحات ستظهر فيما بعد؛ فمع نهاية القرن التاسع عشر تمكن "بسمارك" من توحيد ألمانيا، وأقيمت في فرنسا الجمهورية الثالثة، وحصلت دول عديدة على استقلالها، بهذا المعنى يمكن النظر لثورات 1848 التي بدت حينها كارثية، على أنها كانت بداية تغيير تاريخي ناجح حصل فيما بعد. وبالتالي فإن الثورات العربية التي تبدو فاشلة حاليا، هي التي أعلنت بداية عصر التغيير العربي، الذي ستتضح صورته في المستقبل؛ فالتغيير لا يحصل دفعة واحدة، ويتطلب تضحيات، وغالبا ما يقترن بالعنف.
(المصدر: الايام الفلسطينية 2016-02-11)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews