سنغافورة.. من جزيرة الفقر إلى أغنى دول العالم
تعد تجربة سنغافورة من التجارب المميزة وواجب علينا تأملها بدقة شديدة للاستفادة منها. ورغم أنها الأصغر مساحة في جنوب شرق آسيا، ولا تمتلك موارد طبيعية على الإطلاق، فإن إرادة هذه الدولة حولت هذه الجزيرة خلال أربعين عامًا من جزيرة تتسم بكل خصائص الفقر والتخلف، إلى أن أصبحت من الدول الأغنى في العالم، ووصل احتياطي العملة الصعبة إلى أكثر من 170 مليار دولار، ويعتبر دخل الفرد أحد أعلى الدخول في العالم.
لم تحصل سنغافورة على استقلالها من الاستعمار البريطاني الذي استعادها بدوره من الاحتلال الياباني إلا في سنة 1965، حيث شكلت أول حكومة للجمهورية، لتجد دولة سنغافورة نفسها دون تاريخ وبدون هوية وطنية، وتواجه الفقر والأمية وقلة الموارد مع غياب البنيات التحتية والمؤسسات والجيش الذي سيحميها من بيئة معادية تحيط بها آنذاك، وفوق كل ذلك مشكلة توفيق نسيجها الاجتماعي الذي يحفل بالتناقضات.
في ظل هذا الوضع برز "لي كوان يو" كأول رئيس وزراء لسنغافورة، والذي يعده الكثير الآن مهندس النهضة السنغافورية، حيث قام بمعية فريق من النخبة السياسية بشق طريق التنمية والتقدم، من خلال الاعتماد على الثروة البشرية أساسًا والاستثمار فيها، وتفضيل ذوي الكفاءات، وهو المبدأ الذي لا يزال راسخًا حتى الآن في سنغافورة، يقول رئيس وزراء سنغافورة وهو يشرح نهضة بلاده: "أعتقد أننا ركزنا بشكل كبير على الحفاظ على نزاهة نظامنا فنحن نتعامل بصرامة مع الفساد كما نركز بشكل كبير أيضًا على الأكفاء في تشغيل النظام مما يجعل القيادة فاعلة وقادرة على الإبداع، والترقيات من نصيب الأفضل، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب".
وتمثل رحلة الصعود المذهلة لسنغافورة واحدة من معجزات القرن الماضي. فعند استقلال سنغافورة في مطلع الخمسينيات كانت عائدات القاعدة العسكرية البريطانية تمثل ثلاثة أرباع دخلها القومي، ما عزز التشاؤم حول قدرة الدولة الصغيرة على النمو بمفردها والدخول إلى مصاف الدول المعترف بها .
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه دوما هو: كيف استطاعت سنغافورة تحقيق كل هذه الإنجازات؟ وكيف ضمنت هذه الدولة الاستمرارية في عالم متقلب وفي واحدة من أسخن مناطق العالم سياسيًا وأكثرها تقلبًا من الناحية الاقتصادية؟.
لقد اعتمدت سنغافورة في تحقيق معجزتها على بناء الإنسان والاهتمام بالقيم الحضارية والتاريخ والتراث والانطلاق منها للأخذ بمقومات بناء دولة حديثة لا تعرف حدودا للتطور والنمو، وهناك مجموعة أسس يمكن الاعتماد عليها في توضيح هذه المعجزة أولها تبني نظام حازم لتحديد النسل حيث لم تتجاوز نسبة زيادة السكان 1.9% في 1970 و1.2% في 1980، ما جنب البلاد كارثة الانفجار السكاني التي تمثل عائقا مخيفا للتنمية. أما الأساس الأهم فقد ارتكز على سياسة تعميم التعليم وتحديثه باعتماد أفضل المناهج في العالم حيث تتصدر سنغافورة الأولمبياد الدولي في امتحانات المواد العلمية، وطورت من نظام التعليم واستطاعت أن تربط برامج التعليم بمتطلبات سوق العمل لديها وفق كل مرحلة من مراحل النمو والتنمية، وجعلته قائمًا على الإبداع والابتكار والحافز على التطور، لا مقتصرًا على الحفظ والإطار النظري. الآن، يستطيع حوالي 91% من سكان سنغافورة القراءة والكتابة، وتعد هذه النسبة من أعلى النسب في جنوب شرقي آسيا.
اعتمدت سنغافورة بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية، قوامها حوالي 50 ألف موظف لا أكثر، وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة. وقد حرصت على أن يتم التعيين في الوظائف عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع، بحيث يحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص إن لم يكن أعلى (200 ألف دولار راتبًا سنويًا للوزير كمثال) إلى جانب الشفافية وانخفاض نسبة الفساد الإداري والمالي حتى تصدرت سنغافورة حاليًا مؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية.
وقد مرت سنغافورة بمراحل متعددة باعتمادها على مجموعة من خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكانت الأولى باتجاه التصنيع والاقتصاد المعرفي كضرورة حتمية لتحقيق معدلات عالية القطاع الاقتصادي، وشملت قوائم صناعتها الرئيسة الإلكترونيات، والخدمات المالية، والمواد الغذائية، ومنتجات المطاط، وإصلاح السفن، وكان الهدف الأكبر للتصنيع هو التصدير، لذلك عملت على استقطاب كبريات الشركات العالمية وتوطينها في سنغافورة مع تقديم تسهيلات ضريبية مغرية، بجانب الأيدي العاملة المؤهلة، خاصة في ميدان الصناعات الدقيقة. وتحركت الحكومة في السنوات الأخيرة للحد من الاعتماد على تصنيع وتصدير الإلكترونيات مقابل تطوير قطاع الخدمات، فضلًا عن تطوير الصناعات التقنية الحيوية والكيميائية والبتروكيميائية، وذلك بالتوازي مع سياسة تجارية مدروسة خلال هذه المراحل حيث أدت التجارة دورًا حيويـا في البناء الاقتصادي. وحرصت سنغافورة على التطوير المستمر لتلك السياسات التجارية حيث أسهمت في زيادة وكفاءة القطاع التجاري.
وقد تخطت سنغافورة الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008 واستعادت تنامي اقتصادها لتصبح عام 2010 أسرع دولة في انتعاش اقتصادها بنمو وصل إلى17.9%، وتمكنت حكومة سنغافورة من تحقيق أعلى دخل للفرد سنويًا من ألف دولار عند الاستقلال إلى أكثر من 60.883 ألف دولار عام 2013، كما أنها استطاعت أن تصل بحجم الاستثمار الأجنبي المباشر داخل سنغافورة بما يزيد على 260 مليار دولار، في حين شكلت الاستثمارات السنغافورية في الخارج ما يتجاوز 300 مليار دولار.
وختامًا.. كل هذه الأسس السابقة جعلت من سنغافورة خامس أغنى دولة في العالم، وصاحبة اقتصاد مرن يشمل كبرى الأسواق المالية التي تضم أكثر من 700 مؤسسة أجنبية و60 مصرفا تجاريا إضافة إلى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الصعبة بحجم 60 مليار دولار. وهي من أكثر بلدان الأرض أمنًا، كما أنها نموذج في المحافظة على البيئة، ومثال رائع في المحافظة على مستوى المعيشة. إنها وباختصار تتفوق على الآخرين في كل شيء.
(المصدر: الشرق القطرية 2016-01-28)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews