لماذا لا أصدق السوق النفطية؟
لا توجد سوق يتم التلاعب ببياناتها مثل السوق النفطية. هذا هو اعتقادي الراسخ، والمشكلة في ذلك أن المعلومات التي يتم تداولها في هذه السوق بالذات لا تخضع لهيمنة الاقتصاديين، وعدالة السوق، والتنافسية، بل تخضع بشكل واضح لضغوط سياسية ومتاهات هندسية، فلا أحد يستطيع أن ينكر تأثير أسعار النفط ومخزوناته في السياسات الحكومية لجميع دول العالم سواء كانت تلك السياسات داخلية أم خارجية. قبل أزمة إمدادات عام 1973، لم يكن سعر النفط يتعدى دولارا واحدا، وكان الجميع يرى هذا سعر عادلا، ثم فجأة ارتفعت الأسعار إلى 40 دولارا مع حدوث الأزمة، وهكذا كان واضحا أن السعر السابق لم يكن عادلا لا يعكس حقيقة العرض والطلب، تراجعت الأسعار بشكل واضح والجميع يتحدث عن سعر عادل لكنها لم تصل أبدا إلى دولار مرة أخرى، كان الشائع حينها أن الاستثمارات في السوق النفطية قد توسعت بشكل كبير وأن الدول النفطية قد خسرت كثيرا بسبب تلك الموجة حيث إن ارتفاع الأسعار أغرى كثيرين بالاستثمار في السوق النفطية، وللحفاظ على السعر قاتلت الدول النفطية من أجل وزن السوق وتخفيض الإنتاج الذي كان يتم تعويضه من منتجين جدد وهكذا حتى خسرت الدول النفطية الكبرى كثيرا من حصتها السوقية. في كل مرة تتأرجح أسعار النفط كانت الأسواق العالمية تتأرجح معه، لكن الأهم هو تأرجح الصناعة العالمية، التي معها تتأرجح مستويات الرواتب والأجور حول العالم، ومع كل تأرجح في مستويات الرواتب كان هناك أزمات سياسية هائلة.
خلال رحلة أسعار النفط منذ عام 1973 وحتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، كانت القصة دائما تدور حول المخزونات الأمريكية، والنمو الاقتصادي العالمي، وبين هذا وذاك تظهر لنا قصة البرد في أوروبا. هذه العوامل الرئيسة التي نسمع عنها دائما للتنبؤ بأسعار النفط، كنا جميعا نراقب الاقتصاد الأمريكي بشكل خاص، فإذا انخفضت المخزونات الأمريكية ارتفعت الأسعار وإذا كان النمو العالمي مواتيا والبرد قارسا كانت الأسعار تتحسن والعكس يفرض العكس، لم تستطع الحرب العراقية - الإيرانية ولا حرب الخليج الأولى ولا حتى الثانية زعزعة الأسعار بشكل دراماتيكي، لكن فجأة ومع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد، ظهرت لنا قصة وصول الإنتاج العالمي من النفط إلى أعلى مستوياته وأنه لم يعد بالإمكان زيادة الإنتاج، بل نحن نواجه مرحلة النضوب التدريجي، كانت الأصوات عالية جدا والتقارير الهندسية المعقدة من كل مكان والأمر مقلقا جدا مع بروز مصطلح “نهاية عصر النفط الرخيص”، وكانت الأسعار تستجيب ببراعة وارتفعت الأسعار بشكل هائل جدا وقياسي، واستمرت حتى وصلنا إلى 150 دولارا، والحديث يتردد عن أسعار 200 دولار، ومع هذا الارتفاع الضخم واجه العالم تسونامي من ارتفاع الأسعار في كل شيء تقريبا، ولما لم تستجب الحكومات لهذه الاتجاهات برفع الأجور ظهرت موجة هائلة من الاضطرابات السياسية المخيفة، وانتهى الأمر بثورات في كل مكان تقريبا مع أزمات مالية أطاحت بالحكومات والدول. ورغم كل هذا كانت أسعار النفط تحلق عالية، مع بوادر لبدائل متعددة منها النفط الصخري، والوقود العضوي، والنووي، والطاقة الشمسية، وباتت نظرية نضوب النفط أشبه بالحقيقة الكاملة، مع تصارع الأمم حول نفط العراق.
لكن فجأة وبلا إنذار واضح، عادت أسعار النفط للتراجع، وفي ظل حيرة واسعة مع عودة مصطلح زيادة المعروض وطفرة الإنتاج، وتراجع النمو الاقتصادي، وزيادة المخزونات الأمريكية، تراجعت الأسعار بشكل يجعل من المضحك أن يناقش أحدهم مقولة “نهاية عصر النفط الرخيص” التي تم الترويج لها خلال السنوات الخمس الماضية. ولتبرير الاتجاه الغريب للأسعار جاءت مصطلحات جديدة مثل “نهاية عصر النفط”، وهو مصطلح جديد يروج له -مع زيادة المعروض من النفط- على أساس أن نهاية عصر النفط ليس بسبب نضوبه وقلة إنتاجه بل بسبب اكتشاف بدائل جديدة للطاقة، ومن يروج لهذا المصطلح يستشهد بعصر الفحم الحجري على أساس أن إنتاج الفحم لم يتوقف لكنه لم يعد مجديا اقتصاديا أمام أسعار النفط وسهولة الحصول على الطاقة من النفط. وهكذا فالصورة الحالية تقول إن النفط متوافر وليس هناك احتمالات للنضوب قريبة وهناك فوائض في الإنتاج مع عودة إيران، وتراجع الأسعار هذا دائم حتى تمتص السوق الفوائض المتوافرة.
إذا كانت هذه النظرية صحيحة تماما، (توافر النفط بكميات أكبر من الاحتياج) فالأسئلة كثيرة، ما الذي يجعل الولايات المتحدة تسمح بتصدير النفط لأول مرة والأسعار تتراجع رغم أنها لم تسمح به والأسعار في القمة؟ لماذا يبيع بعض المنتجين الكبار دون سعر التكلفة -كما يروج له. ما الذي يجعل إيران تتوسع في الإنتاج هل تعرف أن الأسعار ستصل إلى أقل من التكلفة؟ لماذا لم تتفق «أوبك» على خفض الإنتاج وهي تواجه مصير التدمير المشترك لكل صناعة النفط لديها؟ لماذا تقول الإمارات إنها تعمل على اقتصاد ما بعد النفط، وستحتفل بآخر برميل تصدره للعالم؟ من وجهة نظر اقتصادية بحتة، هناك تناقض غير مبرر في كل الخطاب السياسي والهندسي في جانب النفط. كل الاتجاهات التي تسير فيها صناعة النفط اليوم تشير بلا أدنى شك -عندي- أن صناعة النفط في العالم تشهد صراعا بين المنتجين. لا يوجد تفسير آخر مقنع. فأنا شخصيا مقتنع تماما أن العالم سيواجه فترة نضوب النفط، والجميع يريد أن يكون آخر من يبيع في السوق، لكن هناك سياسة خلف ما يحدث الآن.
هذه الصراعات في السوق النفطية ليست بلا آثار على اقتصادات الدول، فالدول التي بذلت جهودا هائلة لتصحيح مستويات الأجور لتتناسب مع الأسعار في فترة تضخم أسعار النفط، لن تستطيع القيام بإصلاح عكسي مماثل مع تراجع الأسعار، وسيكون أمامها خيارات صعبة لتصحيح العجز في الموازنة، وهو استعادة الفرق في الرواتب من خلال زيادة الضرائب، من الصعب التكهن بالآثار السياسية لمثل هذه الخطوات لكن ما أتوقعه شخصيا هو تكرار سيناريو اليونان قريبا.
(المصدر: الاقتصادية 2016-01-23)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews