ثورة تونس تستأنف طريقها
ما أشبه تونس هذه الأيام بها أيام ديسمبر 2010/ يناير 2011. تكرار خرافي للأحداث قلّما يجود التاريخ بمثله، فنفس الأسباب تتكرر ونفس ردود الحكام تتكرر ونفس التجاوب الشارعي يتكرر. نتذكّر أنّ زين العابدين بن علي كان قد قال في خطابه الأخير ليلة مغادرته السلطة “لست شمسا لأضيء على كلّ شيء”. والناطق الرسمي بلسان حكومة الائتلاف الرباعي يقول اليوم “ليست للحكومة عصا سحرية”. وزير التشغيل في حكومتيْ الترويكا الأولى والثانية، عبدالوهاب معطر، كان قد قال “وزارة التشغيل ليست مهمتها التشغيل”. ووزير التشغيل في حكومة الائتلاف الرباعي اليوم زياد العذاري يكرر عبارة سلفه نفسها بالحرف.
ما يحدث في تونس اليوم هو أنّ سياسات بن علي وخياراته التي أوصلت تونس إلى طريق مسدود فشلّها الفساد والبطالة والفقر والتفاوت الجهوي والاستبداد، هي نفسها التي تتكرّر اليوم ولكن بشكل أسوأ. فلا ينفكّ التونسيون يكررون السؤال: ما الذي تغيّر؟ لا شيء تغير بل زادت الأوضاع سوءا وخطورة. فالتنمية تدحرجت من 3.5 بالمئة إلى صفر بالمئة. وعدد العاطلين تفاقم ليبلغ 800 ألف عاطل بينهم 300 ألف من حاملي الشهائد الجامعية العليا. ونسبة الفقر بلغت 20 بالمئة.
وفي المقابل ازداد عدد مليارديرات تونس بنسبة 10 بالمئة فتونس الفقيرة تحتل المرتبة الثامنة أفريقيا من حيث عدد المليارديرات الذين يملكون أكثر من نصف ميزانية تونس. ومع ذلك تغيب كل آليات المساءلة والمحاسبة عن الدولة التونسية التي لا يثيرها التناقض بين غياب التنمية والإنتاج من جهة، وارتفاع نسبة المليارديرات من جهة ثانية.
لا شيء تغير في خيارات الحكومات الثماني التي تداولت على حكم تونس بعد الثورة، إذ كلها جاءت لتصرّف الأعمال لا لتحقّق أهداف الثورة وتبتكر الحلول لمشاكل الشعب التونسي. فلم يتم إنجاز أي مشروع كبير كالطرق السيارة أو الموانئ أو المناطق الصناعية أو استصلاح أراضي الدولية المهملة. ولم يتم استئناف أي مشروع تنموي كبير كان معطلا لأسباب إدارية أو عقارية.
كما لم تتقدم كل الحكومات المتعاقبة منذ 14 يناير 2011 خطوة في ملف استرداد أموال تونس المنهوبة المقدرة بحوالي 30 مليار دولار يعني أكثر من ضعف ميزانية سنة 2016 المقدرة بحوالي 14 مليار دولار. بل الأسوأ من ذلك والأخطر، هو التعاطي المتهاون مع الممتلكات المصادرة، فبعضها تشوب عمليات التفريط فيها شبهات فساد نتيجة التفريط فيها بأثمان بخسة، وبعضها الآخر خسر أكثر من نصف قيمته نتيجة الإهمال وتمطيط إجراءات البيع مثل السيارات الفاخرة وغيرها من المنقولات والتحف والملبوسات.
إنّ شعار “هيبة الدولة” الذي رفعه الرئيس الباجي قائد السبسي زعيم حزب نداء تونس وفاز به في الانتخابات التشريعية والرئاسية ظهر أنه كان شعارا مغالطا. إذ كان التونسيون يعتقدون أن هيبة الدولة تعني دولة القانون والمؤسسات والحريات والكرامة، لا دولة الخوف والرشوة والاستبداد كما كانت في عهد زين العابدين بن علي. ولكن بعد الانتخابات اكتشف التونسيون أن هذا الشعار لا يعني أكثر من التوافق المغشوش على اقتسام السلطة، مقابل انتشار ثقافة انتهاك القانون والتسيّب والاستهتار والتهرب الجبائي والتهريب وتخريب الاقتصاد الوطني.
لقد استبدّ إحباط كاسح بالتونسيين وهم يعاينون حزب نداء تونس الذي منحوه ثقتهم ومكّنوه من الحكم يتحلل ويتفتت ويضيع، وفي المقابل مازالت مؤسسات الحكم قائمة باسمه في مجلس نواب الشعب والحكومة ورئاسة الجمهورية. بمعنى أن الحزب تلاشى تقريبا، بينما مازال يسمى حزبا حاكما وهو ما يخالف المنطق والحق والقانون. فرئيس الجمهورية الذي مازال يرفع شعار هيبة الدولة وجب عليه أن يتحمل مسؤوليته في إقالة الحكومة التي كلفها حزب لم يعد موجودا إلا افتراضيا وتكليف شخصية أخرى بتشكيل حكومة جديدة، أو حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات برلمانية سابقة لأوانها.
الشباب التونسي شباب تقدمي متعلم يقاوم ضغوط الفقر وإغراءات المال السياسي السائب في الجمعيات الخيرية التي مازالت تخرب تونس أمام أعين دولة أعلنت عن فشلها في حماية مجتمعها من هذا المال الفاسد. لقد عجزت الدولة ونجحت هذه الجمعيات في استقطاب نسبة من شباب تونس المفقر، الذي غلبه اليأس مقابل حفنات من الدولارات والدنانير. وهو ما يفسر أن عدد التونسيين مرتفع ضمن التيارات الإرهابية المقاتلة في الخارج.
ومع ذلك، إذا قارنا عدد التونسيين الذين نجحت جمعيات التجنيد في استقطابهم (حوالي 7 آلاف) بعدد العاطلين (حوالي 800 ألف) وجدناه نسبة ضعيفة جدّا. وهو ما يعني مناعة الشباب التونسي ضد هذه المحاولات العابثة، وذلك بفضل المعرفة التقدمية التي تلقاها الشباب التونسي في المدارس والجامعات، وبفضل الثقافة المدنية التي تربّى عليها في المجتمع.
ماذا بقي للشباب التونسي وهو يعاين كل هذا الفشل وكل هذا الانسداد في الآفاق وكل أحلامه وهي تتبخر أمامه؟ ماذا بقي له وهو يعاين أن حكومة الحبيب الصيد الثانية عجزت حتى عن تصريف الأعمال؟ ماذا بقي له وهو يرى أن هم الحزب صاحب الأغلبية لم يكن تحقيق أهداف الثورة في التنمية والتشغيل والكرامة، بل كان ضمان الأريحية البرلمانية لتمرير الإملاءات الأجنبية في البرلمان، فسارع بالتحالف مع الحزب الذي كان عنوان الفشل في تجربة الترويكا؟
لا شيء بقي أمام الشباب التونسي إلا الصراخ عاليا مستأنفا مطالبه المعلّقة منذ 5 سنوات. لن يقبل الشباب التونسي تبريرات الفشل والعجز فمطالبه معروفة ومن ترشح للانتخابات كان يعرف هذه المطالب جيّدا ووعد بتلبيتها. من لا يقدر على تحقيق أهداف الثورة فلقد أضاع البوصلة فاصلا فصلا غير منهجي بين حكم تونس بعد 14 يناير وبين ثورة شعبها. وهذه الثورة لن تهدأ إلاّ متى أخذت طريق التقدّم والتنمية والعدالة الاجتماعية. لا يمكن أن يبقى في الحكم من يريد تصريف الأعمال. وتونس عليها أن تغير خياراتها وتوجّه قبلتها شطر الخيارات الاجتماعية الديمقراطية التقدمية بعد أن ثبت فشل الرهانات اليمينية الليبرالية.
(المصدر: العرب اللندنية 2016-01-22)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews