نتائج غير معلنة لمؤتمر الرياض

انتهى مؤتمر الرياض للمعارضة السورية وفق ما هو مخطط له، فقد نجح في جمع كل أطياف المعارضة السورية، أو معظمها، واستطاع تجاوز الخلافات البينية بينها وعقدة الزعامة التي أصابت كل أطراف المعارضة السورية، كما نجح بإصدار وثيقة مشتركة لبرنامج موحّد لهذه المعارضة كثيرة العدد ومختلفة الأيديولوجيات، ووَضَع وثيقة شاملة جامعة للمعارضة السورية، والحصول على الإجماع في اختيار “هيئة عليا للمفاوضات” يمكن لها تشكيل وفد المعارضة المُفاوض وفق المطلب الدولي.
كل ما سبق ترتيب معروف للجميع، لكن في الحقيقة، نجح مؤتمر الرياض بقضايا أخرى أهمّ بكثير من كل ما سبق، ولا يُجانب الصواب من يقول إن النتائج غير المُعلنة لمؤتمر الرياض سيكون لها تأثير كبير ليس على الأزمة السورية وحدها بل على المنطقة كلها، حاضرها ومستقبلها، ويمكن الانطلاق من بنود الوثيقة التي أقرّتها المعارضة السورية، والتي تشير إلى التوافق على “هيئة عليا للمفاوضات يكون مقرها الرياض”، وتكون هذه الهيئة “مرجعية المفاوضين مع ممثلي النظام السوري”.

تعني هذه الهيئة في حقيقة الأمر بداية تهميش كل كتل المعارضة السورية، بدءا بائتلاف قوى الثورة والمعارضة الذي استنفر أعضاؤه خلال سنوات لضمان بقائه ممثلا “وحيدا” للشعب السوري، مرورا بالكتل الأخرى الأقل شأنا كهيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة اللذين انتفخا ليعتقد كل منهما أنه المُخلّص الشرعي الوطني الأكثر حكمة، وهذا التهميش سيبدأ لأن “الهيئة العليا للمفاوضات” المنبثقة عن المؤتمر ستكون “الجسم” الذي سيتعامل معه المجتمع الدولي مباشرة من الآن فصاعداً، والجهة الوحيدة المخوّلة بكل ما يتعلق بالمفاوضات والمرحلة الانتقالية، وصحيح أن هذه الهيئة تضم ممثلين عن الكتل المذكورة لكنّ أياً من هذه الكتل لا يملك النصف المُعطّل، أي أن القرارات التي يجب أن تمر ستمر حتى لو لم توافق أيّ كتلة عليها.

النتيجة الأخرى غير المباشرة للمؤتمر هي شرعنة اثنين من أهم فصائل المعارضة السورية الإسلامية المسلّحة، وهما “جيش الإسلام” و”أحرار الشام”، وبما أنهما وقّعا على مبادئ “مدنية الدولة”، و”الحكم التعددي الذي يُمثّل كافة أطياف الشعب من دون تمييز أو إقصاء على أساس ديني أو طائفي”، وعلى احترام “مبادئ حقوق الإنسان والشفافية والمساءلة والمحاسبة وسيادة القانون”، ورفضا “وجود مقاتلين أجانب في سوريا”، كل هذا الإقرار هو بمثابة صك براءة لهما يُنقذهما من براثن قوائم الإرهاب التي تُحضّرها الأردن بطلب دولي، وسيكون لوضع هذين الفصيلين ضمن قوائم “المعتدلين” انعكاسات عسكرية على الأرض في وقت قريب.

النتيجة الثالثة الأكثر أهمية هي جعل مقر الهيئة مدينة الرياض، مما يعني ضمنا أن السعودية هي المرجعية الجديدة للمعارضة، وأن الملف السوري صار بيد المملكة لا بيد غيرها، وسُحب ـ بموافقة عربية وغربية ــ من يد تركيا وقطر ومصر ليصبح بيد السعودية وحدها، وهذا يعني أن الملف السوري أصبح تحت رعاية السعودية ومن ورائها الولايات المتحدة.

يقود هذا الأمر إلى نتيجة أخرى أوسع وذات بعد استراتيجي أيديولوجي، تتعلق بزعامة السعودية للقطب السنّي في العالم، وهو البساط الذي لطالما حاولت وتحاول تركيا أن تسحبه لجهتها، وموافقة الكتل والقوى السورية المعارضة المدعومة تركيا على أن يكون القرار السوري صادرا من الرياض (كمكان)، يؤكد على أن تركيا سلّمت القيادة للسعودية بالتراضي وليس بالقسر، وهذا بدوره رسالة جليّة لإيران التي تتزعم القطب الشيعي في العالم بأن زعامة القطب السنّي عادت مستقرة ولا مُنازع عليها.

هذه الفرضية تقود بالضرورة لتغيير آخر ستكون له انعكاسات على المدى القصير، ويتعلق بالإخوان المسلمين، السوريين وغير السوريين، حيث ستعرف هذه الجماعة بيسر أنه بات عليها حُكما تغيير برامجها، وستعي أنها دخلت مرحلة جديدة فيها الكثير من الضوابط والمحددات بعد أن عادت المملكة كمرجعية سنّية أولى ووحيدة ستعمل على تحجيم دورهم في سوريا وفي العالم العربي عموما، من خلال إعادة بنائهم الهيكلي والفكري.

كذلك لا يمكن تجاهل نتيجة أخرى تتعلق بقطر، التي صعد نجمها في مرحلة سابقة بشكل سريع لتصبح واحدة من اللاعبين المحوريين في سوريا والشرق الأوسط عموما، فالخدمة التي قدّمتها السعودية لأحرار الشام لوضعها بقوائم الاعتدال، وقبول قطر وفصائلها ورجالاتها في المعارضة السورية أن تكون الرياض لا الدوحة هي المقر، يعني في الغالب أن قطر لا تُمانع أن تصبح السعودية صاحبة القول الفصل فيما يتعلق بالملف السوري سياسياً وعسكريا.

يبدوا أن الدبلوماسية السعودية عملت خلال الفترة الأخيرة أكثر مما تكلّمت، واشتغلت أشهراً طويلة حتى تضمن الوصول إلى هذه النتائج، وهي بالتأكيد حصلت على موافقات عربية وإقليمية وغربية صعبة، ونالت مباركة الولايات المتحدة، وإن صحّت هذه الافتراضات، من المتوقع أن يكون للسعودية دور إقليمي هام وكبير يستطيع مجاراة ـ وربما تخطي ـ الدور الإيراني الذي تعمل إيران جاهدة لتحقيقه، ومن غير المستبعد أن تكون روسيا أيضا مباركة ضمنيا لنتائج مؤتمر الرياض لأنها تعرف دون شك أن السعودية يمكن أن تضبط من لا يمكن لغيرها ضبطهم.

(المصدر: العرب 2015-12-13)