روسيا أمام مفترق طرق
بعد شهر ونيّف من بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا، ونتيجة مراقبة ما قامت به روسيا وما الذي استهدفته في سوريا، وتتبع مواقفها السياسية الموزاية لهذا التدخل، بات جليا أن روسيا جاءت لإنقاذ النظام السوري وحماية رأس بشار الأسد شخصيا، واتخذت لتنفيذ ذلك نفس الحجة التي تحجج بها آخرون قبلها، أي ضرب الإرهاب.
شن سلاح الطيران الروسي نحو 2500 غارة جوية منذ بدء التدخل العسكري الروسي، كانت حصيلتها مخجلة من جهة ومأساوية من جهة ثانية، فقد تسبب الطيران الروسي خلال شهر في مقتل 300 مدني نحو ثلثهم من الأطفال، وقصف 12 نقطة طبية ومشفى ميدانيا، واستهدف أفرانا ومخيما للاجئين وملجأ للمدنيين ومساجد ومركزا للدفاع المدني، فقتل مدنيين في سوريا في شهر واحد أكثر مما قتلته قوات التحالف الدولي في عام كامل، كما دمّر مقرات ومستودعات أسلحة تابعة لفصائل معارضة معتدلة لا علاقة لها بتنظيم الدولة الإسلامية وأشباهه، وبالمقابل لم يتأثر تنظيم الدولة الإسلامية، بل زاد تمدده وتوسعه وسطوته، وكأن روسيا تضرب طواحين الهواء.
صحيح أن تدخّل روسيا العسكري في سوريا حوّل الاتجاهات وموازين القوى، ليس في سوريا وحدها وإنما في المنطقة عموما، لكن هذا التحول ليس بالضرورة لصالح الروس والنظام السوري، وإنما قد يكون في الغالب لصالح شعوب المنطقة وأمنها على المدى المتوسط والبعيد، وتبدى ذلك:
على الصعيد العربي، دفع التدخل العسكري الروسي بعض الدول العربية المفصلية إلى رفع صوتها لأول مرة في وجه المجتمع الدولي، وأشارت بشكل غير مسبق إلى شرور إيران وأساليبها الملتوية وأطماعها شبه الاستعمارية في المنطقة، فأعلنت صراحة أن لها مواقف مختلفة عن موقف الروس بل ومتناقضة معها، وهي مستعدة لتحمل نتائج مواقفها الصلبة هذه، في تحدّ واضح لقوة عظمى تبحث في سوريا عن مجد أَفل.
وعلى الصعيد السوري، أعاد التدخل العسكري الروسي أوهام إمكانية النصر العسكري، فاعتقد النظام أن الجيش الروسي بات إحدى ميليشياته، وأنه بمساعدته ومساعدة الميليشيات الأخرى بات قاب قوسين أو أدنى من النصر المبين، أما المعارضة المسلحة فأدركت وجود خطر داهم، فبدأت تعمل لتصبح أكثر تنظيما وأبدت رغبة في التوحد والعمل المشترك، وقامت بخطوات أولية في هذا المنحى، من أجل التصدي لما تصفه بـ“الاحتلالين الأسدي والروسي”، وهي في الغالب قادرة على التصدي لأنها صاحبة الأرض والرجال والحق، ما يُعطي إيحاء بأن القادم من الأيام في الغالب سيكون درسا قاسيا للروس والنظام على حد سواء.
على الصعيد الدولي، أدرك الغرب أن مماطلته وتردده وعدم استجابته لنداء استغاثة السوريين، وتأجيله نزع فتيل الحرب في سوريا، جعله خاسرا على أكثر من صعيد، فقد أفسح المجال لروسيا لأن تظهر “عنتريتها”، وسمح لإيران بأن تتوهم أنها وحش المنطقة، وترك النظام يدمّر شعبا ودولة، كما زاد من التناقضات الطائفية في المنطقة، ودفع الأكراد إلى إحياء أوهام الانفصال، وأنتج سيلا من اللاجئين لأوروبا والمنطقة، وخلط أوراق اللعب الإقليمية والدولية، وهدد استقرار الإقليم بل والعالم، ولا شك أن المجتمع الدولي أيقن أن عليه الانحياز المطلق للشعب في أي ثورة شعبية في أي منطقة من العالم.
منذ أن بدأت الثورة السورية كان موقف روسيا سلبيا منها، ولم تخف يوما موقفها المؤيد للنظام والرافض لكل مطالب المنتفضين، واستخدمت الفيتو أربع مرات لمنع تمرير قرارات في مجلس الأمن يمكن أن تؤثر على النظام، ووفرت له الحماية من الإدانة السياسية والعقوبات الدولية، وأظهرت عدم اكتراثها بمطالب السوريين السياسية وحاجاتهم الإنسانية والإغاثية، وأرسلت خبراء عسكريين للنظام وأسلحة استخدمها للاستمرار بقتل الشعب، وشككت في المعارضة السورية واتهمتها بالفشل والفوضى والإرهاب، وحاولت خداعها بأكثر من موقف.
تعتقد روسيا أنها ستفرض حلها على جميع الأطراف، السورية والإقليمية والدولية، ونسيت أو تناست أن الجميع يملك أوراق قوة وليست وحدها في هذه “المعمعة”، فالولايات المتحدة وأوروبا تملكان أوراقا ليس آخرها أوكرانيا أو الدرع الصاروخية ببولونيا أو إمكانية تسليح ثوار سوريا، كذلك تملك دول الإقليم المناوئة للنظام ولروسيا أوراق قوة، من حدود مشتركة ومقاتلين وبيئة شعبية صديقة للغاية، كما يملك السوريون منبعا للمقاتلين لا ينضب ليكونوا وقودا لما يعتقدون أنها حرب استقلال.
لا شك أن روسيا تريد موطئ قدم يمكنها من المشاركة في تحديد مصير بلد مفتاح في المنطقة، وهي على قناعة ضمنية بأن النظام يعتقد أنها ستفرض حلّها على جميع الأطراف، السورية والإقليمية والدولية، ونسيت أو تناست أن الجميع يملكون أوراق قوة السوري انتهى، وأن اليوم الذي سيذهب فيه ليولد نظام جديد ليس ببعيد، وتعتقد أن تحركها محسوب بدقة تكتيكيا، إلا أن حساباتها الاستراتيجية قد لا تكون كذلك، وهناك خطر أن تتحول سوريا إلى مستنقع تغرق فيه روسيا كما غرقت في أفغانستان.
روسيا اليوم أمام مفترق طرق، وأمامها فرصة وحيدة لتفادي الغرق، وهي أن تعيد بسرعة هيكلة الجيش السوري وتدمج ميليشيات النظام الطائفية فيه أو حلها، وتضع حدا لإيران وأذرعها الميليشياوية وعلى رأسها حزب الله اللبناني، ثم تعرض على المعارضة المسلحة المشاركة بمجلس عسكري يضم ضباطا من المعارضة والنظام بعد أن تضمن لها أن يكون هذا المجلس أول خطوة لتغيير النظام بمجمله، وتبدأ، على التوازي، المرحلة الانتقالية التي تتضمن انتقالا للسلطة دون فراغ، انتقالا من نظام شمولي إلى نظام ديمقراطي تعددي تداولي، وفي الغالب هذا هو الحد الأدنى الذي يمكن أن تقبل به غالبية السوريين.
أما إن استمرت باعتبار الأسد ابنها المدلل وحامي مصالحها، وأصرت على عدم رحيله، فإنها ستواجه فشلا مخزيا، لأن ملايين السوريين ماضون في طريقهم إلى الحرية حتى آخر واحد منهم، سواء وافق الروس على ذلك أم لم يوافقوا.
(المصدر: العرب 2015-11-09)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews