الصراع من «بلفور» إلى «نتنياهو»
بعد مرور 98 عاماً على «وعد بلفور» تتكشف، أكثر من أي وقت مضى، النتائج الكارثية لتحالف أصحاب هذا الوعد الاستعماري المشؤوم، مع الحركة الصهيونية، صاحبة «الوعد الإلهي» المزعوم، لإقامة «وطن قومي لليهود في فلسطين»، عبر تنفيذ أكبر عملية سطو سياسي عرفها التاريخ الحديث، توسل فيها الحليفان كذبة: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وأنكرا أن الكيان الصهيوني الذي مهد لقيامه «وعد بلفور»، إنما ولِدَ بقوة الحديد والنار، وبعملية تطهير عرقي بشعة، صمت عنها العالم، بضغط من دول الاستعمار «الغربي، فكان أن سارع مجلس الأمن لهيئة الأمم المتحدة للاعتراف بهذا الكيان الغاصب، بينما لم يتخذ، حتى اليوم، خطوة عملية واحدة لرفع الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، ولو في حدود تنفيذ قرارات الجمعية العامة التي تعترف بالحد الأدنى من حقوقه الوطنية والتاريخية. وهو ما شجع قادة الكيان الصهيوني على توسيع حدوده بعدوان 67 وما صاحبه من نزوح قسري. بل وشجعهم على مواصلة العمل لتحقيق أمنيتهم في «تحويل الشعب الفلسطيني لغبار الأرض»، كما جاء في وثائق الخارجية «الإسرائيلية» عام 1950، وعلى مواصلة الرهان على أن «الكبار يموتون والصغار ينسون»، متوسدين عنجهية القوة ومقولات عنصرية فوق تاريخية، حول: «تميز عرقهم»، و "تفوق جيشهم الذي لا يُقهر" و"العربي يخضع للقوة"، «وما لا يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد من القوة». لكن، ماذا كانت النتيجة، وفقاً لتاريخ الصراع الواقعي؟
لم يهِن الكبار، ولم ينسَ الصغار، ولم يفنَ الشعب الفلسطيني، ولم يستسلم، بل ظل موجوداً ومكافحاً، واستأنف مسيرة ثورات وانتفاضات ما قبل النكبة، وأطلق ثورة معاصرة متعددة المحطات. فمن «معركة الكرامة» وموجة العمل الفدائي، إلى صمود بيروت الأسطوري، إلى الانتفاضتين «الأولى» و«الثانية»، إلى إفشال حروب الإبادة والتدمير على قطاع غزة، إلى إرهاصات هبات جماهيرية وأعمال فدائية، تكللت بالفعل الانتفاضي الجاري على كامل مساحة فلسطين التاريخية، بما يؤكد، مرة أخرى، وحدة هذا الشعب ووحدة أرضه وبنيته ونسيجه، وعلى رفضه للاحتلال، وعلى تشبثه بحقوقه الوطنية والتاريخية.
لذلك، وعليه، كيف لأحد أن يتوقع استسلام الشعب الفلسطيني وقد أصبح تعداده اليوم 13 مليون نسمة، وتجمعه، رغم تشتته القسري، هوية وطنية كفاحية متجذرة، وذاكرة جمعية عصية على النسيان، وتوحده أهداف تحررية، شكلت، ولا تزال، نواظم كفاحه الوطني المديد ومحركه الأساس؟ إن مشكلة قادة المشروع الصهيوني مع الشعب الفلسطيني، هي مشكلة كل المستعمرين، الذين يتبنون النظرية الخاطئة ذاتها: (بالقوة والقمع والبطش تستسلم الشعوب)، فيما هي، الشعوب التحررية، وفي طليعتها الشعب الفلسطيني، تنظر لتضحياتها، مهما تعاظمت، كضريبة حرية واستقلال وسيادة. بينما الاستعمار، أي استعمار، ما هو إلا مشروع ربحي، ينهزم لا محالة، عندما يتحول إلى مشروع خاسر، وإلا كيف نفسر، (مثلاً)، هزيمة الشعب الفيتنامي للولايات المتحدة، وهي القوة العظمى الباغية، وهزيمة الشعب الجزائري لفرنسا، وهزيمة الشعب الهندي لبريطانيا، عندما كانت «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»؟
هنا يثور سؤال استراتيجي، هو: كيف يبدو الكيان الصهيوني بعد مرور 98 عاماً على «وعد بلفور»، و67 عاماً على إنشاء هذا الكيان، و48 عاماً على توسعه؟ لقد انقشعت كذبة: «واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة»، ككذبة صهيونية، ساهمت في تسويقها، لمصلحة، حكومات دول الاستعمار والسيطرة «الغربية». بل وانقشعت كذبة: «إسرائيل» «اليهودية الديمقراطية»، ككذبة انتحلها ابن غوريون للجمع بين العصي على الجمع: «اليهودية والديمقراطية»، و«الاحتلال والديمقراطية». أما هدف «إسرائيل» «اليهودية الصافية» أو ذات الأغلبية اليهودية، فقد أصبح مجرد حلمٍ خارج الممكن التاريخي والواقعي اتصالاً بالتعادل والتشابك السكاني بين التجمعات الاستيطانية اليهودية والتجمعات الفلسطينية في فلسطين التاريخية. أما أسطورة «إسرائيل» القلعة»، فتبددت حتى لدى أغلب جنرالات جيشها الذي لم يعد قادراً على حسم الحروب وتحقيق انتصارات مبهرة واضحة لا لبس فيها.
يعني، لقد بانت صورة «إسرائيل» الحقيقية: العنصرية العدوانية التوسعية الإقصائية المارقة. بل، «اليهودية» الفاشية. كيف لا؟ وقد انتقلت من «دولة » لجيش أنشأها، إلى «دولة» لجيش يتكئ على جيش ثانٍ، قوامه عصابات مستوطنين فالتة من كل عقال، بل، إلى دولة ميليشيات، يُسمح لسكانها اليهود، قانونياً، بحمل السلاح وقتل كل عربي يشتبه في أنه يحمل سكيناً، بل وإطلاق النار على يهود وأجانب لمجرد أن ملامح بشرتهم تحمل ملامح عربية. ولا عجب. فرئيس وأركان حكومة، بل عصابة، «إسرائيل» يثابرون على قوننة تكريسها والاعتراف بها، «دولة لليهود»، ما يجعل «إسرائيل» غير قادرة على إخفاء جرائمها عن عيون العالم.
فالعصر غير العصر. والكفاح الوطني الفلسطيني المديد فعل فعله، وشعوب العالم، بما فيها الشعوب «الغربية»، باتت ترى في «إسرائيل» الخطر الأول على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
هنا تتكشف مظاهر المأزق الاستراتيجي للكيان الصهيوني. وهو المأزق الذي يهرب منه رئيس حكومته، الفاشي نتنياهو، بغطرسة واهية، وتزوير مفضوح لحقائق تاريخية ثابتة، حيث يقول: «لا حلول سحرية لما يجري»، (يقصد الانتفاضة الجارية)، و«سنعيش للأبد على حد السيف»، و«علينا أن نسيطر على كل شبر أرض يقع في مجال رؤيتنا». ويضيف، بخسة ووقاحة ووضاعة سياسية: «لم يكن هتلر ينوي حرق اليهود، بل كان يريد طردهم، لكن المفتي الفلسطيني، أمين الحسيني، هو من نصحه بحرقهم، وكأن هتلر الذي أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية، واحتل بولندا وفرنسا وغيرها، ووصل إلى مشارف موسكو، كان بحاجة لمشورة أحد ليمارس العنف، لا ضد اليهود، فحسب، بل، وضد الشيوعيين، والبولنديين، مسيحيين وعلمانيين، وضد من لم يحالفه من الطليان واليابان، وصولاً إلى كل من جابه عنصرية النازية وعنفها وخرافاتها عن «تفوق العرق الآري». وهي العنصرية العنيفة ذاتها التي أنجبتها الصهيونية صاحبة خرافات «تفوق العرق»، و«الجيش الذي لا يُقهر»، التي بددها تاريخ الصراع الواقعي، وما حالة الهلع غير المسبوقة التي خلقتها المواجهة الجارية لدى مستوطني الكيان، إلا برهان آخر، كثف دلالاته السياسية رئيس الاستخبارات العسكرية «الإسرائيلية»، بالقول: «لو كان هذا الهلع قائماً عام 48 لما قامت دولة «إسرائيل» . يعني، سوف يعترف العالم، تقدم الأمر أو تأخر، بالحقيقة التاريخية التي اعترف بها يوماً، رمز العسكرية الصهيونية، موشي دايان، حيث قال، نصاً، أمام طلبة جامعة حيفا: «عليكم أن تدركوا تماما أنه فوق هذه الأرض التي تتلقون فيها علمكم كان فلاحون فلسطينيون يزرعون ويحرثون ويبنون بيوتهم الطينية، وقد أخرجناهم بالقوة، وما زالوا يبنون قوتهم كي يعودوا».
(المصدر: الخليج 2015-11-08)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews