الانتخابات البرلمانية والتنمية الاقتصادية
إن التنمية هى عملية توسيع فى الحريات الحقيقية للناس، وبالتالى فهى ليست فقط نموا فى الناتج أوزيادة فى الدخول،
ولكنها بالأساس توسيع نطاق الحريات التى يتمتع بها الافراد والحقوق السياسية والمدنية، وحق التعبير والاختيار جنبا الى جنب مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، هذه هى خلاصة العمل الرائع للمفكر الاقتصادى الهندى والحائز على جائزة نوبل «امارتيا صن» فى كتابه المعنون «التنمية حرية» Development as Freedom وهى المسألة الجوهرية التى طالما غابت عن العديد من الباحثين والمحللين.
من هذا المنطلق تأتى أهمية المرحلة الحالية التى يمر بها المجتمع المصرى بغية إتمام خريطة الطريق السياسية باجراء الانتخابات البرلمانية لمجلس النواب الجديد، وهى المسألة التى تضع البلاد على الطريق الأصعب والاهم وهو بناء مصر الحديثة التى نصبو اليها جميعا، والانطلاق الى آفاق اوسع للتنمية وإنجاز الخطط التنموية المطروحة على الساحة حاليا.
إذ أثبتت الدراسات العلمية العديدة أن البلدان التى تتمتع بحريات سياسية واسعة ومناخ ديمقراطى سليم، مع استبعاد أثر المتغيرات الأخرى، قد حققت نجاحات فائقة فى تحسين مستوى معيشة المواطنين عامة، وتوفير الاحتياجات الأساسية من تعليم وصحة للسواد الأعظم من الجمهور.فالديمقراطية تضمن المشاركة الفعالة من جانب كافة فئات المجتمع فى صنع القرار والرقابة عليه، وهو ما يتطلب بدوره المعرفة الكاملة بالأوضاع المالية والاقتصادية بالبلاد، وبالتالى الشفافية المطلقة فى عرض جميع الأمور الاقتصادية على البرلمان والمجتمع المدنى، ليس فقط للأغراض الاقتصادية، ولكن ـ وهو الأهم ـ من أجل المزيد من المساءلة السياسية أمام السلطات الرقابية والتشريعية والشعبية. ولذلك تعد الديمقراطية وما تتطلبه من شفافية مطلقة من العوامل الضرورية التى تمكن مجلس النواب والمواطنين بوجه عام من مراقبة الحكومة ومحاسبتها. وهو ما يساعد كثيرا على تحسين الأداء وإصلاح السياسات والبرامج التنموية المطبقة والسير فيها فى الطريق السليم الذى يحقق مصلحة المجتمع والأفراد.
ولذلك أشارت التجارب الدولية المختلفة إلى أهمية التلازم بين الديمقراطية والتنمية، باعتباره شرطا أساسيا للنجاح، فمعظم التجارب التنموية التى نجحت لدى العديد من البلدان قد ارتبطت أساسا بتدعيم آليات المشاركة الشعبية والديمقراطية والشفافية وتطبيق مبادئ الإدارة الرشيدة عند وضع السياسات المختلفة، ولم تقتصر فقط على بعض الإجراءات والعمليات المتعلقة بصندوق الانتخابات، ولكنها تعدتها لتشمل مختلف جوانب هذه العملية. وبعبارة اخرى فان التنمية الحقيقية تتطلب بالضرورة وجود حزمة من القوانين المدنية والتجارية والجنائية الواضحة والمعلن عنها بالقدر الكافي، مع ضمان إنفاذهاعن طريق جهاز قضائى مستقل، فضلا عن تعزيز النظام الضريبى والإدارة الضريبية، وزيادة شفافية المالية العامة، وتفعيل إجراءات المحاسبة المالية، وتطوير الجهاز الإدارى للدولة، مع تفعيل المنافسة وغيرها من الأمور الضرورية للاقتصاد. ورغم أن هذه الإجراءات وغيرها قد تستغرق بعض الوقت إلا إنها تعتبر ضرورة قصوى لإنجاح هذه العملية، مع ضرورة استمراريتها، حتى لاتنعكس بالسلب على الأداء المجتمعى. فمن المعروف أن الإصلاح الجزئى يؤدى إلى زيادة فرص التربح الاقتصادى لدى البعض من أعضاء النخبة الحاكمة وأصحاب المصالح الخاصة، والتزاوج بين السلطة والثروة وانتشار الفساد، مما قد يعوق الانطلاق إلى الإصلاح الشامل، نظرا لقدرات هؤلاء فى التأثير على صنع القرار بالمجتمع. وهو ما يؤدى بدوره إلى إضعاف مساندة المواطنين لجهود الإصلاح، أو الحصول على رضائهم.
من هذا المنطلق نرى ان تعديل المسار الاقتصادى الراهن والسير به فى الاتجاهات التى تستطيع علاج الاختلالات الأساسية فى بنية الاقتصاد القومى والمشكلات الاقتصادية الراهنة، وعلى رأسها التضخم والبطالة والانتقال إلى المرحلة الاهم التى تركز فيها على قضايا الإنتاج والإنتاجية من خلال التوسع المنظم والفعال فى بناء القواعد الإنتاجية وتعبئة الموارد المحلية واستخدامها أفضل استخدام ممكن. وذلك عن طريق إيجاد بيئة اقتصادية قوية ومستوى صناعى معقول ونمو زراعى يساعد على تلبية الاحتياجات الأساسية. والاستفادة المثلى من الطاقات المتاحة وذلك بغية رفع مستوى المعيشة. وكلها أمور لاتتم إلا فى إطار ديمقراطى حقيقى يضمن الرقابة الكاملة على أعمال الحكومة والشفافية المطلقة فى جميع التصرفات والقوانين والقرارات المنظمة.
خاصة ان اقتصاد السوق يعنى وجود نظام تنافسى قائم على توحيد قواعد اللعبة بين كل المشتركين، وتشمل جوانب مؤسسية واحترام القوانين والانسيابية الكاملة للمعلومات .ومادامت السوق لا تلبى جميع الاحتياجات فان الدولة تتدخل، بطريقة مختلفة عن القديمة، للإصلاح. من هذا المنطلق تصبح للدولة عدة أدوار أساسية ورئيسية، منها ضمان كفاءة آلية السوق بما يعنيه ذلك من توفير الظروف التى تجعل تفاعل العرض والطلب يتم فى إطار حقيقى مع ضمان التخطيط الاستثمارى السليم عن طريق توفير البيانات والمعلومات الأساسية عن القطاعات الاقتصادية بالمجتمع, وذلك بالشكل الذى يمكن الجميع من إجراء دراسات الجدوى السليمة والصحيحة. وكذلك توفير المناخ الاستثمارى الجيد عن طريق إصلاح التشريعات القانونية والإدارية . ووضع القوانين موضع التنفيذ . وهذا يعنى ببساطة إيجاد بيئة تنافسية تدفع للمزيد من الكفاءة فى الإنتاج مع ضمان عدالة التوزيع لثمار النمو. وبمعنى آخر فانه بقدر مالا يمكن إهمال آلية السوق وجهاز الثمن ، إلا انه لايمكن ان يستمر ذلك دون التدخل الذكى والمنظم من جانب الدولة. وهو ما أكدته الدراسات التى تناولت التجارب الإصلاحية التى شهدتها الفترة منذ تسعينيات القرن العشرين، التى شهدت العديد من الإصلاحات غير المسبوقة فى التاريخ الاقتصادى من حيث نطاقها واتساعها وعمقها. وقد خرجت الدراسات بنتيجة أساسية مفادها أن عملية النمو معقدة للغاية ولاتخضع للصيغ والمعادلات البسيطة وهناك العديد من الدروس، وعلى رأسها انه يجب إخضاع الحكومات للمساءلة وليس تجاوزها، وبالتالى يجب التركيز على تحسين أساليب الموازنة والمراقبة على السلطات الحكومية، وإيجاد الظروف التى تؤدى الى تحسين صنع القرار. كما يجب البعد عن أسلوب صنع القرار المقولب، أى يجب إدراك الخصائص المميزة للدولة والقيود الملزمة للنمو، وهو مايشير إلى أن تحريك عملية الإصلاح الاقتصادي، إلى ماهو أبعد من وضعها الحالى يتطلب بالضرورة حوارا جادا ومكثفا حول هذه القضايا وإعادة تعريف العقد الاجتماعى مما يسهم كثيرا فى إحياء الحياة السياسية المصرية .
من ذلك نرى أن أفضل السبل لإحداث النهضة فى المجتمع المصرى هى السير على نظام «السوق الديمقراطية»، والذى يرتكز على معادلة الدولة الرشيدة والسوق الناضجة، وهى الوسيلة المثلى لصنع النهضة الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد .وذلك انطلاقا من ان النهضة هى عمل إرادى وليست عملية تلقائية، بل هى عملية إيجابية تهدف إلى النهوض بقدرات المجتمع. فإذا كان النمو يتحقق من المصادر الثلاثة المعروفة، وهى تراكم رأس المال المادى والبشرى، وكفاءة تخصيص الموارد بين قطاعات المجتمع، ورفع مستوى الإنتاجية ، فان ذلك لن يتحقق إلا عبر تحديد واضح للأدوار بين القطاع الخاص والدولة.
كل هذه الأمور وغيرها توضح لنا ان جدول أعمال المستقبل حافل بالعديد من القضايا الأساسية والجوهرية التى تحتاج إلى المزيد من التأمل وإعمال الفكر بغية وضع التصورات الرئيسية حول الأطر المستقبلية .
(المصدر: الاهرام 2015-10-21)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews