الصين تواجه مأزقا .. وعقولها تبتدع شبه حل
الصين، بلد المليار وثلث المليار نسمة، تعاني اليوم مشكلة خطيرة. المشكلة ناجمة عن التطور الاقتصادي المذهل الذي أدى إلى تحسن مستويات معيشة الملايين من السكان، وبالتالي امتلاكهم مركباتهم الخاصة، فكانت النتيجة ازدحامات مرورية لا مثيل لها في أي مكان آخر من العالم معطوفة على تلوث مخيف للبيئة بسبب عوادم ملايين المركبات السائرة على الطرق، ناهيك عما تسببه الازدحامات الطويلة من هدر للوقت وتخفيض للإنتاجية واعتلال للصحة وتخريب للمزاج.
لم يكن الأمر بهذا السوء، بل لم تكن هناك ثمة مشكلة من هذا النوع في الحقبة الماوية والسنوات الأولى لاستبدال الصين جلبابها الثوري المتشدد بجلباب الانفتاح الاقتصادي. الازدحامات في تلك الأيام كانت تنشأ من تنقل مئات الملايين من البشر على أرجلهم، أو على دراجاتهم العادية محلية الصنع، وكان السبيل لمعالجتها في متناول اليد.
في زيارتي الأولى للصين بعد رحيل المعلم ماو بعامين أو نحو ذلك، لفت نظري وجود شوارع وجادات واسعة لا يسير فيها سوى عدد قليل من المركبات والشاحنات وحافلات النقل العام، مقابل أعداد ضخمة من الدراجات العادية التي كانت بمجرد تحول إشارة المرور من الأحمر إلى الأخضر تنطلق كالسيل المنهمر في مشهد مخيف، لا يحدث إلا في المسابقات الأولمبية.
في الزيارة نفسها تصادف أن التقيت، خلال جولة سياحية لمعالم بكين، سفير الأرجنتين المعين حديثا لدى الصين. استغربت أن يقوم شخص في مثل مركزه الرفيع بالتعرف على معالم المدينة مع مجموعة من السياح الأجانب في حافلة سياحية عتيقة. لكن استغرابي تبدد بمجرد أن قال لي ما معناه أنه يفضل بالطبع التجول بسيارته الخاصة لكنه يخشى من استحالة تجنب الاصطدام بواحدة أو أكثر من ملايين الدراجات، التي تكتظ بها الشوارع والطرقات.
تذكرت أخيرا تلك المشاهد عن رحلتي الأولى إلى الصين وأنا أطالع تقريرا إخباريا يفيد بأن سرعة السيارة في بكين باتت لا تزيد على 15 كيلومترا في الساعة بسبب الازدحام الشديد الناجم عن وجود نحو خمسة ملايين مركبة على الطرقات في الأيام العادية، وأكثر من ذلك الرقم في أيام العطلات التي يتدفق فيها سكان الأقاليم الأخرى على العاصمة. وأشار التقرير إلى احتمال أن تسوء الأوضاع أكثر في الأعوام القادمة مع ارتفاع حجم مبيعات السيارات في البلاد. كما أشار التقرير إلى أن هذا المأزق لا يقتصر على بكين وحدها، وإنما تعانيه أيضا كل مدن الصين الكبيرة والمتوسطة مثل شنغهاي وجوانزو ونانجين وتيانجين وشيان، خصوصا في ساعات الذهاب إلى العمل والعودة منه، حيث تصبح المدن كما لو أنها مصابة بشلل نصفي بسبب انسداد وإغلاق الطرق لمدد قد تتجاوز العشر ساعات، علما بأن الوضع يتعقد أكثر في أيام هطول الأمطار الغزيرة.
شيونج شوان نائب الأمين العام للجمعية الوطنية الصينية لقطاع السيارات سبق له أن حذر من احتمال أن تتحول بكين إلى أكبر موقف سيارات في العالم، إذا لم تبادر الحكومة إلى إيجاد حل سريع من خلال الحد من زيادة عدد المركبات المستخدمة للطريق. على أن ما حذر منه الرجل حدث بالفعل في أوائل أكتوبر الجاري، لكن خارج بكين!
إذ تحول الخط السريع الرابط بين بكين وهونج كونج ومكاو، على الرغم من اتساعه واشتماله على 50 مسارا إلى موقف للسيارات بطول عدة أميال، وذلك بسبب استخدامه دفعة واحدة من قبل الملايين من سكان العاصمة الذين خرجوا في سياراتهم لقضاء إجازة العيد الوطني في هونج كونج ومكاو.
لقد جرب المسؤولون الصينيون كل الحلول لمعالجة هذا الوضع، ابتداء من تمديد خطوط جديدة لحافلات النقل العام، وبناء الطرق السريعة والجسور العملاقة، وزيادة خطوط مترو الأنفاق، وتشديد تعليمات وقواعد المرور، ورفع رسوم المرور على الطرق السريعة، وزيادة رسوم المواقف، وتقييد عدد السيارات القادمة من خارج المدن، وانتهاء بتطبيق قانون سير المركبات على الطرق داخل المدن بشكل متناوب حسب أرقام لوحاتها الفردية والزوجية، لكنهم فشلوا في الحد من هذه المآزق.
وعليه فقد ظهرت أصوات تقول إن الحل يكمن في رفع التكلفة المالية لامتلاك السيارة، وأصوات أخرى تنادي بأن يكون حصول المواطن الصيني على سيارة عن طريق القرعة أو المزاد "على الرغم من أن هذا الاقتراح يسلب المواطن حقا من حقوقه الشخصية". كما ظهرت في بكين أصوات تطالب بمنع أولئك الذين لم يمض على إقامتهم في المدينة خمسة أعوام حق امتلاك سيارة خاصة.
وأخيرا توصلت العبقرية الصينية إلى شبه حل قد يخفف الازدحامات بنسبة 30 في المائة فقط. ويتمثل هذا الحل في استخدام الحافلات ثلاثية الأبعاد "ستراتوسفير"، وهي حافلات ضخمة تسير بسرعة 60 كيلومترا في الساعة وتعمل بالطاقة الشمسية وتستطيع الواحدة منها نقل 1400 راكب كل مرة في جزئها العلوي، بينما ترك جزؤها السفلي فارغا كي تمر عبرها السيارات، وذلك كيلا تؤدي ضخامة الحافلة إلى عرقلة مرور المركبات السائرة خلفها. هذه الحافلة، التي ينتظر تشغيلها في بكين قبل نهاية العام الجاري، وتبلغ قيمتها مع إنشاء 40 كيلومترا من مسارها نحو 73 مليون دولار "أي 10 في المائة من تكلفة إنشاء مترو الأنفاق للمسافة نفسها"، تحتوي على نظام إنذار راداري ونظام سلالم الطوارئ المشابه لذلك الموجود في الطائرات.
(المصدر: الاقتصادية 2015-10-16)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews