تقلبات الأسعار تؤرق شركات النفط

التقلبات الشديدة في أسعار النفط تمثل تحديا كبيرا لشركات النفط الكبرى، وهي تخطط استثماراتها للسنوات المقبلة. على الرغم من قبول الشركات بسيناريو أسعار نفط "أقل لفترة أطول" واستجابوا بتخفيض النفقات الرأسمالية والتكاليف التشغيلية، إلا أن التقلبات الشديدة في أسعار النفط في هذا العام جعلت من الصعب على هذه الصناعة تحديد قعر الانخفاض في الدورة الحالية للأسعار. إلى أي مدى ستنخفض أسعار النفط وإلى متى؟ الإجابة عن هذا السؤال ما هي إلا مجرد تخمين الآن ـــ هذا يمثل معضلة كبيرة للشركات الكبرى التي تحاول أن توازن بين حاجتها لخطط الاستثمار المستقبلة الموجهة للنمو ووعودها في الحفاظ على أرباح مشجعة للمستثمرين. وإذا ظلت أسعار النفط متقلبة كما كانت عليه حتى الآن هذا العام، ولم يبرز قاع واضح لأسعار النفط، فإنه سيكون من الصعب جدا على شركات النفط اتخاذ التزامات استثمار طويلة الأجل، وهذا من شأنه أن يهدد الإمدادات المستقبلية ويولد حالة أشد من التقلبات في الأسعار.

لقد اتضح الآن أن تعافي أسعار خام بحر الشمال برنت إلى 65 دولارا للبرميل في أيار (مايو) من 40 دولارا للبرميل في كانون الثاني (يناير) ما هو إلا انتعاش قصير الأجل، حيث تراجعت الأسعار إلى مستوى 40 ـــ 50 دولارا للبرميل خلال الشهر الماضي. ويقوم المحللون بتنقيح توقعات أسعار النفط لعام 2016 إلى الأسفل، حيث تجمع معظم التوقعات على مراوحة أسعار برنت في حدود 55 دولارا للبرميل، على الرغم من أن "جولدمان ساكس" يرى إمكانية لتراجع وجيز إلى 20 دولارا للبرميل بعد الهبوط الأخير إلى قرب 40 دولارا للبرميل.

على الرغم من قيام الشركات بتخفيض الإنفاق الرأسمالي بنحو 10 إلى 20 في المائة، لا تزال مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني تتوقع أن تواجه شركات النفط الكبرى تدفقا نقديا حرا Free Cash-Flow سلبيا كبيرا يصل إلى نحو 80 مليار دولار في عام 2015 على أساس أسعار برنت عند 50 دولارا للبرميل، مقارنة بعجز 26 مليار دولار في عام 2014. وفي العام المقبل، في ظل توقعاتها لأسعار برنت عند 57 دولارا للبرميل، تتوقع مؤسسة موديز عجزا في التدفق النقدي الحر لمجموعة الشركات المتكاملة في حدود 55 مليار دولار - حتى مع الأخذ بنظر الاعتبار الخفض المتوقع في الإنفاق.

عادة تخطط شركات النفط استثماراتها حول الأسعار التي تتوقعها خلال عمر المشروع ـــ الذي يصل إلى 30 - 40 عاما لبعض المشاريع العملاقة ـــ لكنها لا تتجاهل واقع الأسواق في الوقت الحاضر. حيث إن الشركات لديها متطلبات نقدية قصيرة الأجل ـــ خدمة الديون Servicing Debt، دفع أرباح الأسهم وتغطية تكاليف التشغيل ـــ تجب مراعاتها، إضافة إلى الحفاظ على مستوى استثمار عال بما فيه الكفاية للحفاظ على أعمالها على المدى الطويل. لكن التقلبات الشديدة في الأسعار تجعل من الصعب جدا التنبؤ بميزان النقد على المدى القصير، الذي بدوره يمكن أن يؤثر بشكل غير متوقع في خطط رأس المال للشركات. على سبيل المثال، تقول شركة رويال داتش شل إن تغير عشرة دولارات للبرميل في أسعار النفط يؤدي إلى تأرجح التدفق النقدي السنوي للشركة بنحو ثلاثة مليارات دولار، صعودا أو هبوطا.

في الواقع، الكثير سيتوقف على الأسعار. حيث عادة تلجأ الشركات إلى استخدام نطاق من الأسعار وعدد من السيناريوهات في البت في قرارات الاستثمار النهائية للمشاريع الجديدة. هذا النطاق من الأسعار قد انخفض خلال العام الماضي، مع ذلك تم اختبار عدد قليل من المشاريع عند أسعار نفط تحت 50 دولارا للبرميل. هذا التوجه يفسر انحسار قرارات الاستثمار النهائية أخيرا وموجة تأجيل المشاريع، إعادة هيكلتها أو إلغاءها بعد أن بدأت أسعار النفط بالتراجع في منتصف 2014. بالتحكم في عدد المشاريع الجديدة، تأمل الشركات خفض تكاليف الخدمات النفطية وسلسلة التوريد. هذه السياسات بدأت تؤتي ثمارها الآن، لكن ارتفاع الأسعار من جديد إلى 65 دولارا للبرميل أو أكثر، حتى لو كان قصير الأجل، يمكن أن يقوض إعادة هيكلة التكاليف.

على الرغم من استفادة الشركات الكبرى من الأرباح القوية من عملياتها التحولية والتجارية، إلا أن هذه الشركات اتخذت فقط عددا قليلا من قرارات الاستثمار النهائية هذا العام، ما يدل على حجم تحدي تقلب الأسعار. أحد المشاريع القليلة التي حصلت أخيرا على قرار استثمار نهائي هو مشروع شركة شل "أبوماتوكس" في المياه العميقة لخليج المكسيك، الذي تمت المباشرة فيه بعد أن تمكنت الشركة من خفض تكاليفه بنسبة 20 في المائة، والحصول على صافي قيمة حالية NPV موجبة للمشروع عند سعر 55 دولارا للبرميل.

النفقات الرأسمالية المفرطة التي قامت بها الصناعة النفطية بين عامي 2010 و2014، يجب أن تمكن معظم الشركات الرئيسة من الحفاظ أو رفع إنتاجها خلال السنوات القليلة المقبلة، مع بدء تشغيل المشاريع العملاقة الجديدة. ولكن التوقعات لما بعد 2017 ــ 2018 أكثر ضبابية، حيث إن الشركات تعاني معدل انخفاض Decline Rate سنوي في الإنتاج يراوح بين 3 و5 في المائة وانخفاض النفقات الرأسمالية في أسواق نفط أكثر تقلبا. انكماش التكاليف يجب أن يساعد الشركات في الحصول على خدمات نفطية أكثر عن كل دولار تنفقه، ولكن هذا لن يكون كافيا وحده لتعويض انخفاض الاستثمارات.

في هذا الجانب، تقول شركة بريتيش بتروليوم إن فترات الركود السابقة تشير إلى أن انكماش التكاليف يستغرق سنة إلى ثلاث سنوات ليحدث تأثيرا كاملا. عند أسعار النفط الحالية، انكماش التكاليف سيصل إلى القاع في العام المقبل، ما يؤدي إلى مزيد من قرارات الاستثمار النهائية مع انخفاض أسعار تعادل المشاريع. في الواقع، تتخذ الصناعة النفطية من خفض معدل النمو كهدف في حد ذاته، وتعيد التركيز على القيمة بدل النمو لتحسين عوائد رأس المال، في جزء منها ستجابه لسنوات من زيادة الإنفاق التي أسفرت فقط عن نمو متواضع في الإنتاج في أحسن الأحوال. المشكلة أنه من دون تدخل "أوبك" لدعم الأسعار، لا يمكن الاعتماد على أي سعر لفترة طويلة، وهذا في حد ذاته كابوس يؤرق الشركات في التخطيط إلى استثمارات كبيرة.

(المصدر: الاقتصادية 2015-10-07)