التحرير الأسرع للاقتصاد السعودي
يمر الاقتصاد السعودي في المرحلة الراهنة بنقاط تحولات بالغة الأهمية، ستكون لها آثار محمودة -بمشيئة الله- في الأجل الطويل، تتقاطع بصورة أكبر من غيرها عند تخليصه من احتقان أشكال الاحتكار، التي بدورها ستدفع به إلى مواقع أكثر استقلالية عن الاعتماد المفرط على النفط، وهو التحول الذي كان منشودا طوال العقود الماضية من عمر خطط التنمية الشاملة.
وما قرارات وإجراءات تحرير نشاطات اقتصادية كنشاط التجزئة كمقدمة لبقية أنشطة الاقتصاد الرئيسة، إلا مسيرة يبدأها اقتصادنا الوطني هذه المرة بعزيمة أكثر جدية في اتجاه تعزيز التنافسية محليا، والحد من أشكال الاحتكار وتركز الأعمال التي عطلت حريته لفترة طويلة مضت. يشترط لنجاحها واتساع إيجابياتها ألا تتوقف عند أبواب نشاطات بعينها، فيما تراها تُفتح أمام نشاطات انتقائية أخرى، فلا بد أن تخضع كافة الأنشطة وقطاعات الاقتصاد لوتيرة التحرير الاقتصادي الكامل، وخلق بيئة واسعة للمنافسة تشكل كافة أنشطة الاقتصاد الوطني، التي بدورها ستدفعه إلى مزيد من القدرة والمتانة التي تسهم في تعزيز قاعدة الإنتاج المحلية، بصورة تتيح لها الإمكانات الكافية على مستوى تحسين آليات تسعير المنتجات والسلع والخدمات، وفي الوقت ذاته تزيد من جودتها وخياراتها أمام المجتمع الاستهلاكي، هذا من جانب. من جانب آخر لا يقل أهمية عما تقدم ذكره؛ أن بيئة الأعمال تحت شروط المنافسة شبه الكاملة، ستكون أكثر قدرة على إيجاد الفرص الوظيفية أمام الباحثين عنها، وهو الأمر الواجب تحققه اليوم ومستقبلا مقابل عشرات الآلاف من الداخلين للسوق العمل المحلية، وهذا بدوره سيسهم في تحسين مستوى دخل الأفراد بالدرجة الأولى.
لقد واجه الاقتصاد الوطني عددا من أشكال الاحتكار، التي اصطدم عند جدرانه كثير من أحلام وطموحات رؤوس الأموال الوطنية، والحديث في هذا الخصوص تراه يمتد إلى عديد من الأنشطة ذات العوائد المجدية، كالقطاع المصرفي والقطاع العقاري على وجه الخصوص، فالأول كقطاع يمثل القلب النابض لأي اقتصاد حول العالم، يعاني درجة تركز عالية جدا يسيطر على حصصها الأكبر ما لا يتجاوز 12 كيانا مصرفيا، وصل إجمالي موجوداتها بنهاية النصف الأول من العام الجاري لنحو 2.2 تريليون ريال، في الوقت الذي تتوافر لدى رؤوس الأموال الوطنية القدرة على القفز بهذا العدد وتنويع خدماته ومنتجاته وزيادة فرص العمل فيه، لأكثر من هذا العدد المحدود بما لا يقل عن ثلاثة أضعافه وأكثر. مع الانفتاح المأمول لهذا القطاع الحيوي، يؤمل أن تتوافر الفرص الاستثمارية محليا المغرية لرؤوس الأموال الوطنية، مقابل هجرتها حول الأسواق العالمية وتعرضها للمخاطر العالية من وقت لآخر.
أما بخصوص القطاع العقاري، فلا شك أن وزن التحدي هنا أكبر بكثير مما يعانيه القطاع المصرفي، إذ تجاوزت أخطار تشوهاته وتفاقم أشكال احتكار عشرات المليارات من أمتار الأراضي البيضاء داخل المدن، إلى أن أصبح قطاعا خارج دائرة الاقتصاد الوطني برمته! تقوم أخطاره على ركيزتين رئيستين؛ الركيزة الأولى: أن العقار تحول إلى قطاع يمتص أغلب السيولة المحلية المتوافرة في الاقتصاد، محولا إياها من تمويل الأنشطة الإنتاجية المتعددة، إلى مجرد التكدس في أراض صامتة لا إعمار ولا إنتاج على سطحها، فلا حركة لها إلا خوض عمليات هائلة من المضاربات عليها، بحثا عن مكاسب سعرية لا أثر لها ولا قيمة مضافة إلى الأداء الاقتصادي، مفيدة فقط في زيادة دخل وثروات الفاعلين والمشاركين في تلك المضاربات الحامية الوطيس!
أما الركيزة الثانية: فهي التغذية العكسية لسوق العقار باتجاه الاقتصاد الوطني، المتمثلة في ترجمة الارتفاع المستمر لأسعار الأراضي على رفع تكلفة الإنتاج والتشغيل "إيجارات المواقع التجارية والصناعية"، وعلى رفع تكلفة إيجارات المساكن على الأفراد، لتعود مرة أخرى عبر طردها مزيدا من الأموال والثروات من التشغيل والإنتاج والتطوير والإعمار، نظير ارتفاع تكلفة الإنتاج وتقلص هوامش الأرباح، وانعدام مرونة رفع أسعار المنتجات والخدمات، لتفضل الخروج من تلك الدائرة المثمرة للاقتصاد الوطني، والانجراف خلف الأموال والثروات المتسربة إلى مخازن القيمة والمضاربات، المتمثلة في الأراضي! وليزيد من ثم الاحتقان والتزاحم على الأراضي البيضاء، وبهذا ندخل في حلقة مفرغة من دوران الثروات والأموال خارج دائرة الاقتصاد الوطني، لا ينتج عنها إلا استقطاب السيولة المحلية إلى الاكتناز والمتاجرة في الأراضي على حساب الإنتاج والتطوير، وإعادة ثمرتها السيئة إلى الاقتصاد الوطني مرة أخرى في تضخيم الأسعار وتكاليف المعيشة والإنتاج، وهكذا دواليك دون قيد أو شرط، ليس ما يعانيه الاقتصاد والمجتمع في الوقت الراهن، إلا حلقة من حلقات قادمة أكثر خطورة وسلبية على الاستقرار الاقتصادي والتنمية الشاملة والمستدامة، وماذا سيكون عليه الموقف حينما نكتشف أن أغلب الثروات والمدخرات تحولت برمتها إلى هذا المسار البالغ الوعورة؟ وكيف لنا أن نخرج من هذه الورطة الكبيرة؟
مما تقدم؛ تبرز أمامنا أهمية الجهود والقرارات والإجراءات التي بدأتها أجهزة الحكومة أخيرا، بدءا من إقرار الرسوم على الأراضي البيضاء داخل المدن والمحافظات، مرورا بتحرير النشاطات الاقتصادية، وإخضاعها للمنافسة الكاملة، والعمل الدؤوب على تسهيل بيئة الأعمال المحلية، وفتح أبواب النفاذ إليها بعدالة ومساواة وكفاءة. تحمل النتيجة النهائية لهذه الخطوات البالغة الأهمية، فرصا إيجابية للاقتصاد الوطني، يمكن قراءتها في زيادة أعداد كيانات القطاع الخاص وتنوع منتجاتها وخدماتها، وفي زيادة فرص التوظيف والعمل أمام المواطنين والمواطنات، وفي زيادة مستوى الدخل، وتقليص التفاوت بين مستويات الدخل، وهذا في مجمله سيحقق للاقتصاد الوطني درجة أعلى من تنوع قاعدة الإنتاج، واستقلالية أكبر عن الاعتماد المفرط على النفط وتقلباته العالمية، وأخيرا تحقق تنمية مستدامة وشاملة يجني ثمارها كل فرد ينتمي لهذه البلاد الخيرة، بحول الله تعالى. والله ولي التوفيق.
(المصدر: الاقتصادية 2015-09-12)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews