100 دولار لبرميل النفط ولكن... ماذا عن المستقبل؟
عقد الأسبوع الماضي الاجتماع نصف السنوي الاعتيادي لمجلس وزراء دول منظمة «أوبك»، فيما أسعار النفط لا تزال مند 2012 فوق 100 دولار للبرميل، وهذا أمر مريح طبعاً للدول المصدرة في ظل أوضاع اعتيادية. لكن في الحقيقة هذه ليست أوقاتاً طبيعية في أسواق النفط، فهناك ثورة مهمة تتبلور ملامحها في الصناعة النفطية، تتمثل في التمكن من إنتاج النفط والغاز الصخري بكميات كبيرة واقتصادية، خصوصاً في الولايات المتحدة، ما أخذ يغير في أساسيات الصناعة البترولية العالمية، فبدلاً من أن تستمر الولايات المتحدة، اكبر دولة مستهلكة ومستوردة للنفط والغاز، ستصبح في المستقبل المنظور دولة مصدرة للبترول. ولهذا التغيير آثاره في صناعة البترول وتجارته عالمياً من جهة والسياسة الخارجية الأميركية من جهة أخرى. وسيكون لهذا التغيير مدلولاته على الأسعار، ناهيك عن وجهة الصادرات، والعرض والطلب في الأسواق.
معروف أن استمرار الأسعار العالية لفترة طويلة يدفع الشركات إلى الأخذ في الاعتبار كثير من الأخطار والولوج في اكتشافات جديدة والاستثمار في البدائل، سواء المستدامة مثل الطاقات الشمسية والريحية والنووية (وإن لم تشكل هذه البدائل أكثر من 6 إلى 7 في المئة من مجمل مصادر الطاقة المستعملة حتى الآن)، وغير التقليدية مثل النفط الصخري والسوائل البترولية والنفوط المستخرجة من أعماق البحار (نحو 20 ألف قدم تحت سطح الماء) أو من مناطق جديدة غير مطروقة سابقاً مثل القطب الشمالي، ناهيك عن الوقود العضوي. وبدأت هذه البدائل تنافس أسواق النفوط التقليدية، والأهم من ذلك، أنها بدأت تشكل منافسة جدية في استقطاب الاستثمارات، على حساب النفوط التقليدية (الشرق أوسطية تحديداً) الأقل كلفة والأكثر وفرة والأسهل استخراجاً والمرتبطة بشبكات طويلة من الأنابيب والموانئ التي توصلها من مناطق الإنتاج إلى أسواق الاستهلاك.
امتد عصر النفط حتى الآن أكثر من قرن (منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر)، أما الدور الرئيس للدول النفطية العربية في هذه الصناعة فهو يمتد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كان بدأ في بعض الدول في العشرينات (إنتاج حقل كركوك العراقي بدأ في 1927). ومن نافل القول، إن تطوير النفوط غير التقليدية يعني إطالة عمر عصر النفط، بدلاً من اللجوء إلى بدائل الطاقة المستدامة، على رغم استحواذ النفوط غير التقليدية على حيز لا يستهان به من السوق النفطية. لكن، لهذا التغيير الجذري في الصناعة البترولية (النفط والغاز) آثار أخرى، منها التغييرات في اتجاهات الأسواق، والانعكاسات على الأسعار.
ماذا يعني هذا؟ يعني دوراً أوسع للدول المستهلكة الكبرى في الصناعة والأسواق العالمية، مع اعتماد اكبر على مصادرها الطاقوية الداخلية بدلاً من استيرادها. لكنه يعني أيضاً، مسؤولية اكبر على شركات النفط الوطنية في دول «أوبك»، العربية منها تحديداً، في التوصل إلى أولويات جديدة، فلا تكتفي بتطوير نفوطها وتسويقها، بل تبدأ العمل في شكل أوسع في الأسواق الجديدة بالتعاون مع الشركات الدولية لطرق مصادر الطاقة الجديدة والأسواق الناشئة. وبدأنا نشهد نواة هذه الاستثمارات الجديدة هنا وهناك، لكن واضح أن هذه الاستثمارات الجديدة تتطلب رؤى جديدة وتدريب كوادر على طرق جديدة في العمل والمنافسة. وسيتطلب هذا تغييرات هيكلية واستثمارية جديدة، ناهيك عن الرؤى والطموحات. ونرجو أن تكون الدول المعنية، المالكة للشركات الوطنية، مرنة بما هو كاف لتسمح بهذه المتغيرات.
وفي خضم هده المتغيرات المتوقعة، يجب التفريق بين آثار هذه الثروة البترولية في صناعة الطاقة من جهة، وانعكاساتها في الوقت ذاته على السياسة الخارجية الأميركية المستقبلية. والسؤال الأساسي في هذا المجال: ما الذي سيحل بالسياسة الأميركية في المنطقة إذا اكتفت الولايات المتحدة بنفطها؟ في الحقيقة، بدأت المصالح الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط بالتغير حتى قبل ثورة البترول الصخري. فالاتجاه الاستراتيجي الأميركي يهتم منذ فترة بشرق آسيا وجنوبها، حيث الأسواق الناشئة والمزدهرة ذات الكثافة السكانية. وهناك بزوغ لقوة دولتين عملاقتين (الصين والهند). أما في الشرق الأوسط، فسيبقى هناك الاهتمام بالاحتياطات الضخمة من النفط والغاز، وما دام هناك اعتماد على المصادر الهيدروكربونية في مجال الطاقة العالمي، سيبقى هناك اهتمام باحتياطات دول الشرق الأوسط وإنتاجها، فأي تأثير فيها، سيترك بصماته في الأسواق البترولية العالمية.
لكن، من المتوقع جداً، وثمة ملامح، أن يتغير طلب الولايات المتحدة، نتيجة تجاربها في أفغانستان والعراق والضغوط على مواردها المالية وردود الفعل السلبية للرأي العام المحلي، فالولايات المتحدة تطلب من حلفائها الأوروبيين والآسيويين تحمل الأعباء العسكرية والمالية والمادية في ضمان أمن الشرق الأوسط، أو على الأقل الطرق البحرية لتصدير البترول، وهذا الأمر مرشح للزيادة. لكن العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل ستبقي اهتماماً أميركياً كبيراً بالمنطقة.
تشير المعطيات المتوافرة إلى أن ثورة البترول الصخري ستؤدي إلى متغيرات مهمة مستقبلاً، وهذا أمر متوقع في العلاقات الاقتصادية الدولية أو في السياسات الخارجية للدول الكبرى. لكن واضح أيضاً أن للدول، خصوصاً الكبرى منها، مصالح متعددة، وبعضها يستمر عبر حقب طويلة من الزمن، بينما البعض الآخر منها، لا يتأثر بمتغير اقتصادي معين. وفحوى هذا الكلام أن زيادة الاحتياطات البترولية الأميركية، ودخولها مجال تصدير النفط والغاز، سيعنيان أنها ستتأثر أكثر بتقلبات الأسواق العالمية، على رغم تقلص اعتمادها على استيراد الطاقة، فهي ستكون أكثر مراعاة مستقبلاً لمصالح المصدرين.
أما بالنسبة إلى سياستها الخارجية، فاهتماماتها ومصالحها اكبر بكثير من الاعتماد على عامل واحد فقط، وهو الطاقة، على رغم أهميته. فالجدال الدائر في الأوساط الأميركية يدور مند فترة حول تركيز اهتمام قواتها وسلاحها على الشرق الأقصى وجنوب آسيا. وبدأ هذا النقاش قبل اكتشاف البترول الصخري، ولا يزال مستمراً. لكن الولايات المتحدة وحلفاؤها، سيبدون الاهتمام اللازم بالتدفق المستمر لموارد الطاقة من الشرق الأوسط إلى الأسواق العالمية من دون أي انقطاع أو تهديدات. وهذا هو عامل مكمل لاهتمامها بالاقتصاد الآسيوي وحيويته، ولا يناقضه بتاتاً.
( المصدر : الحياة اللندنية )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews