انطباعات من باريس: كتاب "غربي" يقارن بين إيران وإسرائيل
إذا كان "الصَّيْدُ" في مكتبات بيع الكتب الجديدة ضرورةً ماسةً للصحافي فإنه في مكتبات بيع الكتب القديمة متعةٌ خالصة. "صيد" اليوم الباريسي كتاب مقارنة بين إسرائيل وإيران صادر حديثا جدا، تعالوا نرى قيمته البحثية من خلال مراجعة سريعة ستليها لاحقا مراجعات لبعض الكتب الجديدة والقديمة التي اخترتها من مكتبات الحي اللاتيني، هذه المرة "بحثاً" عن إيران التي تستوجب إعادة استكشاف حقائقها بين أوهامنا عنها وأوهامها عن نفسها.
متابعة النقاشات من باريس حول الأوضاع في الشرق الأوسط، أو من أي عاصمة غربية كبيرة، يعطي المراقب فرصة عدم الغرق في هواجس منطقتنا وكوابيسها وحروبها عند النظر إلى احتمالات الموقف الغربي بعد الاتفاق الأميركي الإيراني. ليس لأن هذا الغرق غير مطلوب في تحليل أوضاعها، فهي أقوى وأعنف وأخطر مرحلة من أية مراحل سابقة مرّت بها في القرن العشرين، ولكن لأن الرصد عن بُعد يسمح أكثر ليس فقط برؤيةٍ خارجية أوضح بل حتى برؤية داخلية لها بعدما تكرّس الدور الغربي كدور داخلي ومؤسّس فيها. ولعله الآن، أي الدور الغربي، يعيد تأسيس منطقتنا مرة ثانية بعدما أسّسها مرّةً أولى بعد عام 1919.
كوني أحد الكثيرين اليائسين من مستقبل المنطقة، كل المنطقة التي تتحوّل إلى ازدحامات سكانية بلا أفق، باستثناء إسرائيل، تساءلتُ بعد قراءتي لكتاب صادر للباحثة ساره بيريز، أي الصادر بعد اتفاق الإطار بين إيران والـ5+1 في لوزان في الثاني من نيسان المنصرم وقبل الاتفاق النهائي ويقارن على كل المستويات بين الإمكانات والإعاقات الإسرائيلية والإيرانية... تساءلتُ هل الوجه الإيجابي الجوهري في الاتفاق الأميركي الإيراني هو عودة ولادة مشروع من داخل هذه المنطقة سيحفّز العرب ويحرّضهم، وخصوصا مصر، على إعادة بناء مشروع استنهاض داخلي يكون منطلقاً لقيام تنافس حقيقي في السياسة والاقتصاد والثقافة يعيد معه الاعتبار للمنطقة التي يبدو فيها الطرف العربي، حيال إسرائيل وإيران وتركيا، طرفا ضعيفا بل عاجزاً، بالمعاني الأشمل الحداثية؟
بعيدا عن الكثير من الكلام الفارغ الدائر حاليا سلبا وإيجابا، فإن الإجابة على هذا السؤال، سؤال هل الاتفاق الإيراني الأميركي، وهو بالنتيجة اتفاق إيراني مع القوى العظمى الحاكمة للعالم، يعني ولادة مشروع إيراني مستقل ومهيمن أم هو عمليا استسلام حضاري إيراني للغرب مقابل مكاسب إقليمية؟ (والبعض يسمّيها "امبراطورية" إقليمية. لكن سنعود في مقال آخر إلى هذا المصطلح في مراجعة لكتاب أميركي هام حول الموضوع).
في الحالتين، بالنسبة لنا في المنطقة العربية، هو مشروع كبير. سبق لدول كبرى وأهم من إيران، أن "استسلمتْ" فحوّلت نفسها في مدى جيل لاحق إلى قوة كبيرة في الاقتصاد لتنقذ نفسها في السياسة والثقافة. ألمانيا واليابان المهزومتان انخرطتا في استسلام كامل ومن دون تردد، كالتردد الإيراني، الصين فعلت ذلك في حلف فعلي مع الولايات المتحدة الأميركية ساهم في إسقاط الاتحاد السوفياتي وحوّلها خلال جيل إلى قوة اقتصادية عظمى منافسة لأميركا. روسيا التي لم "تستسلم" لا تزال تقاتل على كل الجبهات لكن مع خسائر خطيرة في البنية الاقتصادية والجيوبوليتيك عبر الهجوم الغربي المتواصل على حدودها الغربية في أوكرانيا ( ناهيك عن الجنوبية في سوريا). تركيا التي اختارت الخيار الغربي التحديثي بعد الحرب العالمية الأولى وحققت نجاحا ملموسا نسبيا في مجال التحديث السياسي والاقتصادي.
النخبة الإيرانية الدينية فاجأَتْنا بقدرتها على التغيير. تغيير قد يطال دورها هي نفسها أو حتى مرتكزات نظامها السياسي على المدى الأبعد ولكنها بصورة ما ومباشرة، عبر "الاتفاق النووي"، قفزت إلى قيادة تيار شبابي ونسائي ونخبوي واسع وعميق في الثقافة الإيرانية يريد "الاستسلام" الحضاري للغرب مع الاحتفاظ بشكليات الكرامة الوطنية العريقة التي سيلبيها النظام بمكاسب إقليمية.
هذا مشروع خطير بكل المعاني أسميناه استسلاما أم اتفاقا متوازنا.
في كتابها الصادر حديثا بالفرنسية (2015) عن منشورات "فرانسوا بوران" وتحت عنوان إيران - إسرائيل: حرب تكنولوجية - كواليس نزاع غير مرئي" تقدّم الباحثة ساره بيريز عرضاً مفصّلاً لتاريخ المشاريع العسكرية والتجسّسيّة والاقتصادية الإيرانية والإسرائيلية في محاولة مقارنة من الكاتبة لنقاط القوة والضعف بين الدولتين. العنوان بذاته معبِّرٌ: حرب تكنولوجية، لكن قراءة الكتاب تُظهر أنه بحثٌ حول إمكانات إسرائيل كدولة متقدِّمة عسكريا وصناعيا وعلميا أكثر مما هو مقارنة مع إمكانات إيران. جدية البحث ستكشف عن تفوّق إسرائيلي ليس صعبا الموافقة مع الباحثة عليه لولا بعض النزوع الدعائي في الكتاب. والواقع أنه كان بإمكانها الاستغناء عن هذه الدعائية دون أن تتأثّر النتيجة التي تريدها لصالح إسرائيل والتي هي فعلا لصالح إسرائيل كما يظهر الكتاب بشكل دقيق وجدي ومطّلع. بل بالعكس ما ذكرته دعائيا أضعفَ بعضَ أقسام الكتاب إضافة إلى الضعف الآخر المتعلّق بفيضان المعلومات عن إسرائيل وعدم إسهابها بالنسبة نفسها عن إيران. أبرز مثال على ذلك، ولعله الأطرف والأبرز، كيف تدافع الباحثة بيريز عن قرارالموساد الإسرائيلي قتل العلماء الإيرانيّين كما حصل في 11 كانون الثاني عام 2012 عندما اغتيل المهندس الكيميائي في مفاعل نتانز النووي مصطفى أحمدي روشان وهو الرابع في سلسلة اغتيالات طالت علماء إيرانيين. عندما تكتب بالحرف أن " الاغتيالات تتم في إطار قانوني. فهذا النوع من القرارات ليس وليد الموساد الذي لا يلعب سوى دور المنفِّذ لأن المسؤولين السياسيّين هم وحدهم من يقرِّر" وتضيف: "هناك لجنة سرية برئاسة رئيس الوزراء مؤلفة من قادة الاستخبارات وقادة عسكريّين وموظفين في وزارة العدل لدرس الجوانب القانونية إلى الأمنية والسياسية تصدر القرار". طبعا ما تريد أن تقوله الباحثة هنا أن إسرائيل دولة قانون تنفِّذ عملياتٍ سرية!!؟
الكتاب إذن يعطي صورة سلبية عن الامكانات العسكرية الإيرانية ومحدوديتها ما عدا نسبيا في مجال الصواريخ الذي تعتبره الباحثة غير كافٍ لتأمين الحماية الكاملة. كذلك في العمل السري الخارجي. بينما صورة إسرائيل هي صورة دولة متقدمة في التكنولوجيا العسكرية والصناعية تحتل بعض شركاتها مرتبة بين الشركات الكبرى في العالم في بعض المجالات ويعمل في قطاع التكنولوجيا وأبحاثه فيها مئتا ألف شخص. وتركّز الباحثة على حرب الفيروسات ( Cyber Guerre) والنجاحات التعطيليّة التي حققتها إسرائيل ضد إيران.
على ضرورة محاولات مقارنة من هذا النوع ربما يكون أكثر ضرورة إضافة مقارنات بنيوية بين إيران وتركيا ومصر وإسرائيل في مجالات الاقتصاد والأبحاث والعلوم والثقافة حيث يكمن الاحتياط العميق الحقيقي لأي مجتمع ودولة. الاحتياط الذي جعل وليم بيرنز، كبير المفاوضين الأميركيين في المرحلة السرية من المفاوضات مع إيران في عُمان يكتب دفاعا عن الاتفاق النووي في وجه معارضيه في " النيويورك تايمز": لا نستطيع قصف المعرفة بالقنابل. قاصداً بذلك أن المعرفة النووية صار يملكها "جيل" من العلماء الإيرانيّين.
أكثر ما يؤلم في النقاشات الصاخبة والهائلة في الغرب التي حصلت خلال الانتقال التدريجي من تفاهم إلى إطار إلى توقيع نهائي للاتفاق النووي مع إيران... أكثر ما يؤلم هو غياب أي ذكر تقريباً أو كليا لدى الخبراء والسياسيين والديبلوماسيين الأوروبيين والأميركيّين لدور مصري على المستوى الإقليمي في السيناريوهات المطروحة للمستقبل. انشغلت التحليلات برصد الاستراتيجية الإسرائيلية وموقف المملكة العربية السعودية. والآن تركيا. على أي حال مصر اليوم، دولةً ومجتمعا، تدافع عن استقرارها الداخلي المستهدف. الداخل قبل المحيط. نأمل أن تنجح المعادلة وأن لا يظهر أن الدفاع عن الداخل لا بد أن يبدأ بالمحيط.
(المصدر: النهار 2015-08-01)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews