إرهاب باريس يطيح استراتيجية إيران في المنطقة
عند بدء ترميم مسرح «باتاكلان» الباريسي يوم الاثنين الماضي الذي قتل فيه إرهابيو «داعش» 89 مدنيًا، جاء شاب فرنسي وأنزل «بيانو» من شاحنة، جلس أمام مدخل المسرح وبدأ يعزف أغنية جون لينون «تخيل»، فعادت الحياة إلى ذلك الحي وإلى المسرح كذلك.
قال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ورئيس وزرائه مانويل فالس إن حربًا أعلنت على فرنسا وستكون طويلة، وتعهدا بمواصلتها ضد «داعش». من المؤكد أن هولاند سيعزز دور فرنسا العسكري ضد «خلافة» البغدادي في الرقة. لكن هل سيتراجع عن قراره عدم إرسال قوات فرنسية خاصة إلى الرقة؟ الولايات المتحدة، بعد تمنع طويل، أرسلت قوات خاصة لمساعدة الذين يقاتلون «داعش».
لكن ما على فرنسا أن تفعل، أو ماذا ستفعل الآن أمران مختلفان، ويعتمد كل منهما على الموقف السياسي؛ عليها أن تعالج الأمر بشكل شامل، فـ«داعش» ظاهرة أو أعراض لمشاكل أكبر في المنطقة وفي فرنسا، لذلك تتطلب المعالجة الوصول إلى الجذور، ومنها ملامسة التهميش الذي يشعر به بعض المسلمين في فرنسا. ومع إظهارها أنها تدرك المشاكل الحقيقية التي يواجهها هؤلاء فهي مضطرة أن تكون حازمة بالمعنى الأمني.
قال فالس إنه يريد طرد الأئمة الراديكاليين لإبعاد الشباب عن تأثيرهم. منذ يناير (كانون الثاني) الماضي بعد عملية «شارلي إيبدو»، يدور النقاش في فرنسا عن دور الجالية المسلمة، والمشكلة أن هذه الجالية منقسمة، ولا تعمل بطريقة ذات معنى أو كنقطة مركزية أو كمرجع، وهي عجزت عن تقليص التأثير الراديكالي وتعزيز التأثير المعتدل. وكان لافتًا عندما زار الرئيس هولاند المغرب في سبتمبر (أيلول) الماضي أنه وقع اتفاقًا مع العاهل المغربي الملك محمد السادس لإرسال أئمة مغاربة لتعميق ثقافة الأئمة العاملين، أو الذين سيأتون إلى فرنسا إزاء تعاليم الإسلام السمحة. ولوحظ في العمليات الإرهابية الأخيرة الدور المخيف للمغاربة فيها. إلى جانب تقصير الجالية المسلمة بحق مسلمي فرنسا هناك تقصير الحكومة الفرنسية، التي ترفض مد اليد لمعالجة مشاكل الشباب المضطرب أو المشاكل التي تعانيها عائلاتهم، وهذا يعود إلى أسباب متنوعة منها تاريخية ومنها سياسية.
في عمليات باريس الإرهابية الأخيرة، أراد «داعش» التأكيد على أن باستطاعته الهجوم في أي لحظة وفي أي مكان، فهدفه نشر الرعب، ثم إن الإرهاب والإرهابيين لا يقيسون نجاحهم بعدد الناس الذين يقتلون، بل بعدد الناس الذين يخيفون.
عاصمة الحب باريس، أراد تدميرها أناس يحبون الموت، ونجحوا إلى حد ما، مما يشير إلى فشل أمني. هناك شعور أساسي لدى الشعب الفرنسي بأن الخصوصية قضية مهمة جدًا ويجب عدم التضحية بها لصالح الأمن القومي. ووقفت بالتالي الأجهزة الأمنية الفرنسية أمام عائق ثقافي أدى إلى تقليص كفاءتها، إذ لا يمكنها أن تتعامل مع الخطر الذي ينشره متطرفو القرن الحادي والعشرين، فيما الفرنسيون متمسكون بأفكار القرن التاسع عشر الرومنطيقية، من حرية التعبير، وحرية الحركة عبر أوروبا. ألسنا ومنذ أكثر من عقد نردد ونشعر باستمتاع أننا نعيش في «قرية عالمية»، لكن، وكما يبدو أنه من أجل حماية هذا الوعي الثقافي الثمين، يبدو أن الرأي العام الفرنسي صار مستعدًا للحرب وأن من واجبات فرنسا اقتلاع تنظيم داعش من جذوره.
غدي ساري، من «تشاتهام هاوس»، نجح في الحديث مع قلة في الرقة بعد الغارات الفرنسية المكثفة ليل السبت - الأحد الماضي. قالوا إنها كانت من أقسى الليالي في الرقة، واستبعدوا أن تكون فرنسا وحدها قامت بتلك الغارات. هم يصدقون أنه لم يقع ضحايا مدنيون، لأن الكل يتجنب الاقتراب من مقرات «داعش»، وفي الوقت نفسه فإن «داعش» يشكك بمدنيين يقتربون من مقراته، التي هي في الأساس مقرات رسمية سورية احتلها أثناء معاركه مع النظام، وعادة ما تكون معزولة عن المدينة والبيوت. ما لوحظ أن «داعش» لم يستعمل السلاح المضاد للطيران، وكأنه يتوقع مثل هذه الهجمات بعد عملياته السوداء، كما فعل عندما قصف الأردن مقراته ردًا على إحراقه الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيًا.
قد تكون الأسلحة بدأت تنقص، لذا قال مراقبون متابعون تعليقًا إن «داعش» قام بعمليات باريس للتغطية على خسائره للأراضي في العراق والحسكة.
مع اهتزاز استراتيجيته التي تعتمد على توسيع أراضي «خلافته» تحول «داعش» بعملياته نحو أوروبا وروسيا، فهذه ولو أنها حتى الآن لا تقصف مقرات «داعش» مباشرة، إلا أنها تضغط على تحركاته. وبإسقاطه طائرة شرم الشيخ لم يكن فقط يستهدف السياحة في مصر بل العدو البعيد روسيا.
كشفت عمليات باريس أن آيديولوجية «داعش» صارت تشبه آيديولوجية أسامة بن لادن، مؤسس «القاعدة». كان هدفه دائمًا العدو البعيد، وكانت الولايات المتحدة ومصالحها الأولوية عنده، في حين أن آيديولوجية «داعش» كانت تركز على إقامة «دولة الخلافة»، وأنه ضمن حدود هذه الخلافة فإن الحرب الأخيرة ضد «الكفار» ستحسم. تمدد «داعش» نحو ليبيا، لأنها حسب نظريته المزعومة تجعل «الخلافة» تصل إلى روما، لكن خسارته أراضي شاسعة انعكست سلبًا على تأسيس هذه الخلافة في العراق وسوريا، فالتفت إلى فرنسا المشاركة في التحالف الدولي ضده، التي تتحمل وحدها، وبكل شجاعة، عبء محاربة التطرف الإسلامي في مالي. ثم إن العمليات وقعت مع انعقاد مؤتمر فيينا، وتوافق الأميركيين والروس والأوروبيين والعرب المعنيين وإيران على خريطة طريق لانتقال سياسي وانتخابات بعد 18 شهرًا في سوريا. وهذا يعني تحويل التركيز عسكريًا على «داعش».
لكن، وللأسف العميق، كشفت عمليات «داعش» الإرهابية عن صراع ثقافي وليس صراع حضارات. في الغرب يحترمون الديمقراطية، إنها نتاج حروب خاضها الآباء والأجداد كي يتنعم بها الأبناء إضافة إلى قيم احترام القوانين والأنظمة. حدود مفتوحة لتسهيل التحرك، وليس لتهريب السلاح والإرهابيين. الشرطة البريطانية تسير في الشوارع لحفظ الأمن من دون سلاح، إذ هناك القوانين التي تحمي وتردع. لكن، رغم أن الديمقراطية أثبتت أنها النظام السياسي الأكثر فعالية في التاريخ الحديث، فإنها أمام الإرهاب تصبح ضعيفة. هي كانت السبب الأساسي وراء ضعف مكافحة فرنسا وبلجيكا الراديكالية المتطرفة في الشوارع والأحياء. لذلك بعد وقوع عمليات «داعش» الإجرامية، تراجعت الديمقراطية لتفسح المجال أمام إجراءات قد يصفها البعض بالتعسفية: إغلاق الحدود، وقف القطارات، نشر قوات مسلحة في باريس، الطلب من المواطنين التزام منازلهم. على المدى القصير ستغير «انتصارات» هذا التنظيم على «الكفار» طبيعة المجتمع الفرنسي ونسيجه بشكل خاص، والمجتمع الأوروبي عمومًا. وقد تؤدي إلى تعزيز اليمين المتطرف، والعودة إلى الصراعات على أساس الهوية والعرق والدين في أوروبا. ستؤدي إلى إغلاق الحدود الأوروبية أمام الهجرة إلى أوروبا، وستضعف نقاط التقارب في الاتحاد الأوروبي. وإذا ما تعززت أفكار مارين لوبن وتوجهاتها في الانتخابات المحلية الشهر المقبل في فرنسا، فإن لعبة «الدومينو» ستتهاوى في جميع البلدان الأوروبية.
من جهة أخرى، فإن فرنسا من أهم أعضاء الحلف الأطلسي، ولاحظنا كيف أعلن كل قادة ذلك الحلف وقوفهم إلى جانب فرنسا. المملكة المتحدة أنشدت «المارسلياز» النشيد الوطني الفرنسي، جون كيري وزير الخارجية الأميركي ألقى جزءًا من خطابه مساء الاثنين في باريس باللغة الفرنسية. انتصارات «داعش» الدموية على الأبرياء وتهديداته بـ«الأعظم» ستزيد من الوجود العسكري للحلف الأطلسي في الشرق الأوسط، وقد تضع حدًا لتفكير الإدارة الأميركية في إدارة ظهرها وتخفيف وجودها العسكري في المنطقة، وهذا ما سينعكس سلبًا على سياسة الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف وقد يطيح بإدارته. لأن الوجود العسكري للحلف الأطلسي في الشرق الأوسط من ناحية، وتصعيد الصراعات فيه من ناحية أخرى، سيصيبان في الصميم «سياسة الاستقرار» التي سوّق لها روحاني وفريقه على أمل أن تصبح إيران القوة المسيطرة والمعتمد عليها في المنطقة. لقد أثبتت هذه العمليات أن استراتيجية تشجيع الصراعات خارج الحدود كي تبقى الدول المشجعة مستقرة، لها انعكاسات سلبية، ومحاولة إيران المناورة وإظهار أن كل شيء هادئ داخل حدودها، فيما الدول الأخرى في المنطقة تعاني من تدخلاتها، سيكون لها ثمن، وكان أول ثمن اضطرار روحاني إلى إلغاء زيارته الرسمية إلى باريس. إن نقل أوروبا وأميركا وإيران وتركيا مشاكلهم إلى أراضي الدول العربية انتهت فعاليته في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015.
المهم بعد أن تمر موجة الظلام الكالح هذه، أن تستمر فرنسا في الدفاع عن تميزها وتنوعها وطريقتها الفريدة في الحياة. إنها أرض الكلمة والريشة والضوء والحب.
(المصدر: الشرق الأوسط 2015-11-19)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews