البنوك الخليجية والاستقرار المالي
يبقى القول صحيحاً في مجمله أن القطاع المصرفي الخليجي غير مكشوف بشكل مباشر على تداعيات أزمة الأسواق المالية العالمية التي تعصف بالعالم الغربي منذ العام 2008 اللهم إلا المؤسسات المالية الخليجية التي تمتلك استثمارات مباشرة في تلك الأسواق، ولا سيما أسواق العقارات.
لقد استطاع القطاع المصرفي الخليجي خلال العقدين الأخيرين من تنمية قدراته المالية وموارده البشرية وإمكانياته التكنولوجية وخبرته بغية تحقيق المنافسة على الصعيد العالمي. كما بات هذا القطاع يحتل موقعاً مهماً وأساسياً في الاقتصاد الخليجي، انطلاقا من دوره الأساسي في تمويل الإنتاج والتجارة والاستثمار، حيث ارتفعت أصوله بشكل كبير خلال عام 2014 وبلغت نحو تريليوني دولار.
ووسط اتجاهات العولمة والتحرير الاقتصادي والمالي، والاتجاه المتزايد لفتح الأسواق الخليجية سواء بموجب اتفاقيات منظمة التجارة العالمية أو بغية جذب الاستثمارات الأجنبية أو استجابة لبرامج الإصلاح الاقتصادي لصندوق النقد الدولي، شهدت الأسواق المالية الخليجية انفتاحا كبيرا على الخارج بكلا الاتجاهين: اتجاه عمل المصارف الخليجية في الأسواق العالمية واتجاه عمل المصارف العالمية في الأسواق الخليجية، وباتت معظم الأسواق الخليجية جزءا من القرية الكونية، وبات على المصارف الخليجية أن تختار لنفسها النموذج المصرفي والاستثماري الذي يلائمها، فمنها من اختار الاندماج الكامل في الأسواق المالية مثل تجربة بعض بنوك الاستثمار الأقليمية وبعضها اختار البقاء مركزا على اسواقه المحلية، بينما اختار البعض طريقا وسطا.
لقد اتخذت الأزمة المالية أبعادها العالمية عندما لجأت المؤسسات المالية الأمريكية إلى تغليف ما يصل إلى 50% من الرهون المأزومة وتسويقها أو الاحتفاظ بها في شكل سندات، وحملت البيانات المالية للمصارف التجارية والاستثمارية 1.25 تريليون دولار من الأصول المتعثرة. وقد ناهزت الخسائر المرتبطة بالرهون العقارية المرتفعة الأخطار التي أعلنت عنها المؤسسات المالية منذ انفجار فقاعتها في أغسطس 2007، 500 مليار دولار وخفّضت حجم الأصول المتعثرة إلى نحو 800 مليار دولار.
وهناك علاقة وثيقة بين أزمة أسواق المال العالمية والدول الخليجية من خلال عوامل مثل "الشح الائتماني" و "التضخم"، حيث برزت ظاهرة وجود عملية تضخمية عالمية في وقت يشهد فيه اقتصاد الولايات المتحدة واقتصاديات البلدان الأخرى المهمة ذات المداخيل العالية تباطؤاً. وتعود هذه الظاهرة لأمرين كبيرين: التقارب والاختلالات. ويندرج تحت بند التقارب نمو الاقتصاديات الناشئة وعلى رأسها الصين والهند. وتحت بند الاختلالات تندرج عمليات التدخل في أسواق العملة بهدف تدعيم القدرة التنافسية.
إن جميع المؤشرات ولاسيما تلك المتعلقة بالطاقة أو السلع أو المساكن تبقى غير متفائلة، مما يدفع بصورة أكبر إلى تصعيد التوقعات الخاصة بتقلب الأسعار. والخلاصة أن التحدي بات عالميا بدرجة الامتياز، ولم تعد البلدان المتقدمة القوة الدافعة العالمية، فهي تستورد التضخم من العالم النامي، في وقت تسعى لممارسة سياسات تحفيزية للاستثمار والانفاق لتعزيز نمو الاقتصاد مما يؤدي إلى تفاقم أزمة التضخم وسط بيئة تتسم بشحة السيولة والائتمان. إن دخول مرحلة تباطؤ بفعل توالد الأزمات المالية والمديونية في شبه دوامة مفرغة لا بد أن يفضي بالنهاية إلى تراجع الطلب على الطاقة وبالتالي انخفاض أسعار النفط.
وبضوء تلك الدروس، على المصارف الخليجية اعتماد سياسات لمعالجة الضغوط القصيرة الأجل ومتطلبات الاستقرار المالي وبالذات بضوء تواصل تداعيات الأزمة العالمية في المدى المنظور. وبالنظر أولا إلى المدى القصير، يتمثل الهدف في استعادة ثقة كافة الأطراف المتعاملة مع المصارف سواء مساهمين أو مستثمرين أو مقرضين أو عملاء من خلال إعادة بناء السلامة المالية للمؤسسات، ومن ثم تخفيف ضغوط السيولة المستمرة، بما يتيح لأسواق المعاملات بين البنوك أن تعاود العمل بشكل طبيعي ويسمح لأنشطة الوساطة بالاستمرار. كما يجب أن تبادر المؤسسات التي أصاب الضعف ميزانياتها العمومية إلى زيادة رؤوس أموالها وتخفيض توزيعات الأرباح. كما عليها أن تعمل على تحسين تشريعات وقواعد الحوكمة والشفاقية والمهنية لديها.
وفي المدى المتوسط والطويل، من الضروري أن تنظر البنوك المركزية في مدى فعالية أدواتها المستخدمة في الحد من ضغوط السوق والرقابة على المؤسسات وبالذات تعاملاتها في المنتجات المالية الجديدة، مع وضع قيود أشد على المديونية. ومن خلال التقريب بين ممارسات البنوك المركزية فيما يتصل بأدوات إدارة السيولة والمديونية والمنتجات والشفافية والحوكمة، يمكن الإسهام في تخفيف الصعوبات التي تواجه هذه البنوك في التعريف بإجراءاتها وتوصيل متطلباتها واشتراطاتها الخاصة بالاستقرار المالي، مما يسهل على البنوك الخليجية من تعظيم دورها في الاستقرار المالي في بلدانها، وهو ما بات يبرز بصورة متزايدة وبالذات بالنظر لتوالد الأزمات المالية والمديونية العالمية الراهنة.
(المصدر: الشرق القطرية 2015-07-26)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews