حقول النفط .. إنتاج النصف الأول والأخير
يظل الرأي السائد في محيط أفراد المجتمع أن الإنتاج النفطي يستمر عند مستواه الحالي حتى نهاية عمر الحقول، وهو خلاف الواقع. فعلى الرغم من أهمية النفط في حياة البشر، إلا أن ثقافته هي الأدنى بين كل ما يتعلق بشؤوننا الخاصة والعامة. ولا نعني هنا ضرورة معرفة الأمور الفنية، بل فقط المعلومات البسيطة التي قد تساعد على فهم طبيعة هذا المصدر الحيوي وعلى أنواعه ومراحل إنتاجه ومستقبله. فهناك فارق كبير بين طريقة وتكلفة وكمية إنتاج النصف الأول من مخزون الحقول النفطية الذي ينتهي عند ذروة إنتاج الحقل وبين محاولة استخراج النصف الأخير من الاحتياطي النفطي المتبقي. النصف الأول قد لا يستغرق أكثر من عشر إلى خمسة عشر عاما، والنصف الأخير يستمر في العطاءعقودا عديدة ولكن بكميات قليلة. يبدأ الإنتاج غزيرا وبكل سهولة ويسر، وبتكلفة متدنية. وما يتم نشره في بعض وسائل الإعلام حول تقدير عمر النفط عن طريق قسمة الاحتياطي على كمية الإنتاج الحالي غير دقيق ولا يمثل ما يحدث على أرض الواقع. فلمعرفة تحول الإنتاج مع مرور الوقت من إنتاج كبير إلى شح شديد يجعلنا أكثر حذرا من نهاية غير محمودة العواقب.
عندما يبلغ الإنتاج الذروة، تبدأ مرحلة التحدي، حيث تتناقص الكمية بشكل متسارع وترتفع التكاليف مع مرور الوقت، ثم نضطر حينئذ لاستخدام طرق غير تقليدية تساعد على استخلاص الجزيئات النفطية اللاصقة ببطون الصخر داخل مسام ميكروسكوبية. منها ضخ بخار الماء عند درجة عالية وضغط كبير. وكذلك استخدام بعض أنواع الغاز مثل ثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى ضخ كميات من المواد الكيماوية التي تسهم في تسهيل جريان السوائل النفطية. والهدف الرئيس هو زيادة نسبة الاستخلاص، أو مجمل الكميات التي من الممكن إنتاجها من الحقل خلال عمره الطويل.
فالنفط هو سائل تكون بفعل الضغط والحرارة من مواد عضوية، متزامنا مع تكوين الصخور الرسوبية التي تحمله، منذ ستمائة إلى سبعمائة مليون سنة، تحت أعماق سحيقة قد تصل بضعة آلاف من الأمتار. وغالبا تتكون معه كميات كبيرة من المركبات الغازية الذائبة فيه إلى درجة التشبع. ويكون المخلوط، بطبيعة الحال، تحت ضغط كبير بسبب وجوده داخل مسام الصخور العميقة. وعندما يتم الحفر إلى العمق المطلوب، يتدفق السائل النفطي عبر فوهة البئر بقوة دفع الغاز الذائب. وتختلف الحقول في مجال مستوى الضغط وكميات الغازات الذائبة وفي صفات والمميزات الطبيعية للمادة النفطية. وهناك طرق مثالية للإنتاج قد تساعد على إطالة عمر الحقل ورفع نسبة الاستخلاص العام التي من المفترض أن تكون من أهم أهداف الإنتاج. ولكن من النادر في وقتنا الحاضر أن تجد من يمارسون أفضل طرق الإنتاج من أجل رفع الكفاءة والحصول في النهاية على أكبر كمية ممكنة. فمعظم المنتجين يتصرفون على عجل، ويهمهم فقط ما يحصلون عليه آنيا دون اعتبار للمستقبل. فتجد أن إنتاج البئر يكون غالبا عند أعلى مستوياته، دون مراعاة لكميات الغاز الناتج ولا لاحتمال تسرب ماء المكامن قبل أوانه، الذي قد يتمكن من عزل مساحات واسعة من الطبقات الحاملة للنفط ويستحيل إنتاجها لاحقا من دون مجهود كبير ومكلف لتحديد مواقعها.
في المراحل الأولى من الإنتاج، نحصل على نفط صافٍ بمساعدة الغاز الذائب. ومع مرور الوقت تقل كمية الغاز، وهو المحرك الرئيس لصعود السوائل النفطية من مكامنها إلى سطح الأرض. وفي الوقت نفسه ترتفع نسبة الماء المصاحب إلى مستويات متسارعة نحو الصعود. فتقل كمية الإنتاج النفطي مع ضعف في قوة الدفع. وهنا تبدأ مرحلة جديدة باستخدام مضخات كهربائية غطاسة أو ميكانيكية للمساعدة في رفع السوائل إلى أعلى. وتتميز هذه المرحلة من عمليات الإنتاج باستمرار هبوط نسبة الكميات النفطية مع نمو كبير في إنتاج الماء المصاحب. ترتفع نسبة الماء إلى مستويات قياسية تصل إلى 80 و90 في المائة من مجموع سوائل الإنتاج. ففي هذه الحالة، من إنتاج كل مائة برميل نحصل على أقل من عشرين برميلا من النفط. هذا يحدث خلال عمليات إنتاج النصف الأخير من عمر الحقول. وربما تظل كميات النفط تتناقص حتى يصبح الإنتاج غير مجدٍ اقتصاديا. وللعلم، فإن أمريكا لديها آلاف الآبار التي لا يزيد إنتاجها الآن على بضعة براميل في اليوم. وبما أن عمر النصف الأول من الإنتاج لم يستغرق إلا سنوات قليلة حتى بلغ الذروة، إلا أن إنتاج المتبقي في الحقل، وهو النصف الآخر، قد يستمر عشرات السنين، ولكن بكميات متواضعة وبتكلفة عالية جدا مع انخفاض شديد في مستوى الدخل. وهذه هي المرحلة التي سوف يعيشها أولادنا ومن بعدهم أحفادنا وأجيالنا. فإذا لم نعدهم من اليوم لتحمل مسؤولية الحياة الصعبة والاعتماد على الله ثم على مجهودهم الخاص، فسوف يعانون الأمرين. فهذه مسؤوليتنا اليوم، ونحن نرفل في نعمة لم نكن نحلم بها ولكننا لم نقدر قيمتها والمحافظة عليها. الإسراف في الإنتاج وفي الصرف وفي جميع شؤوننا لن يؤدي بنا إلا إلى عدم الإنتاجية الفردية والاعتماد على الأيدي والعقول الأجنبية التي مآلها إلى تركنا عندما يزول الدخل الرخيص. ولعله من نافلة القول، أن نذكر إن معظم الحقول الرئيسة المنتجة في دول الخليج، بل في العالم كله، باستثناء ثلاثة من حقولنا، هي اليوم في طور ما بعد الذروة. أي أنها تنتج من النصف الثاني من الاحتياطي النفطي.
(المصدر: الاقتصادية 2015-07-12)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews