"ذكرى": مبادرة تحيي الموروث الشعبي بفن الأسلاك

جي بي سي نيوز - من السهل على الإنسان أن يصنع بأنامله لعبة بسيطة، ولكن من الصعب أن تتشابك الأسلاك الحديدية لتفرز أعمالا فنية يجتمع فيها الخيال مع الواقع، وتمتزج فيها الأحلام.
لكن، خالد النواصرة (15 عاما) جعل من الصعب سهلا حينما أنتج تلك الأعمال وصمم مجسمات السيارات والطائرات والدراجات الهوائية من الأسلاك، وبأبعاد وقياسات دقيقة تبدو وكأنها من إنتاج مصنع متخصص.
هذه الموهبة من منطقة الأغوار الجنوبية التي بزغ نورها وحظيت بالدعم والتشجيع والتنمية من مبادرة (ذكرى) أثناء زيارتها للمنطقة.
النواصرة، كغيره من الشبان الذين اعتادوا صنع السيارات البسيطة بالمخلفات المتوفرة لديهم في المنطقة، شده وجذبه تنمية موهبته الدفينة من خلال سماعه ومراقبته لتوجيهات فريق مبادرة (ذكرى) في إحياء الموروث الشعبي ومنها صناعة وفن الأسلاك.
مؤسس مبادرة (ذكرى) ربيع زريقات، يبين أن فن الأسلاك أو سيارات الأسلاك من الألعاب الشعبية ومن “تراثنا الذي نعتز به ونريد إحياءه ودعمه، لأننا نؤمن بأن موروثنا العربي الأردني غني وفيه حلول للعديد من مشكلاتنا والتحديات التي تواجهنا ويجب البحث فيه وأن يكون المصدر الأول للإلهام”.
ويلفت إلى أن سيارات الأسلاك ليست مجرد لعبة، فهي وسيلة تعلمية يمكن أن يتعلم خلالها الطفل الرياضيات لما فيها من أشكال وارتفاعات ومساحات وفيها فيزياء الحركة وميكانيك وإعادة التدوير وتشجع على الإبداع والإنتاج بدل الاستهلاك وغيرها الكثير، هذا ما نسميه بـ(التعلم الشعبي)، أي التعلم من ممارسات الناس والمجتمع والاستلهام من هذه الأفكار وتطويرها اذا احتاجت إلى تطوير لتناسب مكان أو زمان محدد، (الشعب مصدر للإلهام)، ومن الأفكار والمواهب موهبة خالد النواصرة.
بدأت موهبة النواصرة ترى النور عندما شارك في العام 2011 في المسابقة الأولى التي أطلقتها مبادرة ذكرى في غور المزرعة لدعم هذا الفن وإعادة إحياء الألعاب الشعبية مثل سيارات الأسلاك، وبعد المسابقة قام خالد بتطوير مهارته بدعم من مبادرة (ذكرى) وعائلته.
واليوم أصبح خالد من الرياديين في هذا الفن وقد قام في 2014 بإعطاء ورشات تدريبية لطلاب مدارس في عمان، بالاضافة الى الأطفال في مخيم الزعتري وغيرهم، فضلا عن مشاركته مع عدد من زملائه في غور المزرعة بالمعارض والمحافل لعرض هذا الفن والتحدث عن أهميته. يتحدث النواصرة عن موهبته “منذ الصغر وأنا لدي هواية صناعة السيارات والدراجات والطائرات، لكني لم أتصور يوما بأنني سأتقنها كما هي الآن”.
صنع النواصرة مجسمات عدة في منزله، هذه المجسمات تحتوي على أدق التفاصل، فنرى (السيارة أو الطائرة) تشتمل على كل خصائص الحركة.
ويوضح أنه يستخدم في صناعة المجسمات (الأسلاك بنوعيها السميكة والرفيعة لربط القطع ببعضها بعضا، الكماشة، والمسطرة فقط). ينفذ ابن الأغوار تصاميمه في ورشة صغيرة في منزله، حيث أدواته، ويبدأ بصناعة هيكل المجسم الذي ينوي صنعه مثل السيارة، فيبدأ بوضع القاعدة، ويتدرج وصولا للسقف العلوي للسيارة، يتخللها وضع الأبواب والنوافذ والعجلات والغطاء الأمامي والخلفي، ومقود السيارة وغيرها من الإضافات اللازمة لإتقان المجسم. لا يرسم النواصرة المجسم الذي يريد عمله، وإنما يبدأ بالتنفيذ مباشرة كما يراه في مخيلته، ويستطيع عمل أي مجسم يريده من الآلات فقط برؤيته لمرة واحدة (وكأنها عدسة تلتقط صورة لهيكل أي من الآلات).
يقول النواصرة “عندما طورت صناعتي لسيارات الأسلاك قيل لي إن هذه مهارة لا فائدة منها، لكني أعتقد أن هذا غير صحيح، فأنا أتقنت صنع هياكل السيارة وتوازنها مع حركتها ووزنها واستطعت تركيب بطاريات ودينامو على بعض الطائرات، وربما أكون في المستقبل قادرا على تصميم أو صنع سيارة حقيقية”.
وعن العمل في مبادرة (ذكرى)، يقول زريقات “بدأت مبادرة ذكرى العام 2007 بالأسلوب التقليدي من خلال توزيع التبرعات والمعونات، ومع مرور الزمن والتعرف أكثر على الحياة القروية (الأغوار الجنوبية)، بدأت أتعرف أكثر على الممارسات المجتمعية اليومية، وألحظ ممارسات متحضرة متطورة منها فكرة الإنتاجية، الاكتفاء الذاتي، الأمن الغذائي؛ حيث بوادر الأمن الاقتصادي من إعادة التدوير، هذه المناطق أكثر مسؤولية تستخدم المصادر بطريقة تلائم حياتهم ويستغلونها بشكل مناسب (إنتاجي أكثر من استهلاكي)”.
ويضيف زريقات “في كل زيارة لهذا المكان (الغني بمصادره وأهله) تتولد لدينا أفكار جديدة مما حولنا، فالمجتمع المنتج يخلق شعوبا قوية، وعليه تصبح له قرارات، وجميع هذه الأمور غيرت رؤيتنا للمنطقة بتكريس مبدأ وقاعدة (التبادل وليس التبرع) فالتبادل فيه تشاركية شيء مميز، فالجميع يقدم والجميع يتشاور، أما التبرع فهناك بطل وضحية لأنك استخدمت مسطرة واحدة”.
تهدف مبادرة (ذكرى) إلى تعزيز روح المساواة بين جميع المواطنين من خلال تيسير التواصل والتعاون الثقافي بين مختلف فئات المجتمع وصولا إلى تحسين ظروفهم المعيشية.
وتسعى إلى تحقيق هذا الهدف من خلال منهجية متعددة الأساليب تضم السياحة التطوعية للقروض الصغيرة والتدريب على مختلف المهارات والأساليب.
تعمل مبادرة (ذكرى) على نشر الوعي بأسلوب الحياة المعاشة في منطقة الأغوار الجنوبية من خلال التواصل مع السياح المحليين والأجانب والطلبة ودمجهم في برامج وأنشطة تطوعية، وقد تم تصميم هذه البرامج بناء على مفهوم التبادل في المصادر والمعرفة والمهارات بين المتطوعين والمستفيدين، مثل الرحلات التي تنظمها جمعية (ذكرى) بقيام المتطوعين بزيارة المجتمع المحلي في غور الأردن ويتعلمون من مهارات أهل المنطقة.
وامتدادا لخطى مبادرة (ذكرى) في تحقيق أهدافها، أسس زريقات والناشطة لمى الخطيب مبادرة (ذكرى للتعلم الشعبي) التي تقوم على فكرة التعلم من الناس (الإلهام والحلول من الناس).
يقول زريقات “أتوقع أن نصبح مجتمعا منتجا كما كان سائدا في السابق، إعادة ثقافة الإنتاجية والتعليم من خلال الصنع، وإعطاء الفرصة واحترام الإنتاجية للأطفال، وهذه هي نتيجة التشاركية (تعلمت منه وتعلم مني)، وهذا ليس بالجديد على مجتمعنا الأردني القائم على فكرة (العونة) التي تقوم على المساعدة والتعاون”.
والد خالد النواصرة، يقول “اهتمت مبادرة (ذكرى) بابني خالد كثيرا، وقاموا بتنمية موهبتها وصقلها بالشكل الصحيح، وليس هذا فقط بل قاموا بتشجيعها على تحسين مستواه الدراسي ومعالجة القصور لديه، وأصبحت ثقته بنفسه أكبر، فتى يعتز بما يصنع لديه أمنيات وطموح كبيرة”.
ويضيف الوالد “كانت لدي هذه الموهبة منذ الصغر، ولكن لم أتمكن من ممارستها وتطويرها، لكني أستمتع عندما أشاهد خالد يصنع مجسمات تحظى بالقبول والإعجاب، وتتميز بالإتقان، أتمنى أن أرى ابني أفضل مني، أراه مصمم سيارات، فهو سعيد بما ينتج، خصوصا عندما رأى أن منتجاته تباع وتحقق مردود مادي جيد جدا”.
وعن سبب تسمية المبادرة بـ(ذكرى)، يوضح زريقات “عندما بدأت بالأسلوب التقليدي أي توزيع التبرعات، كنا نطلب من الناس أن يقدموا الأشياء التي يحبونها وتعز عليهم والتي كونت لهم ذكريات جميلة ليقوموا بتمريرها وإعطائها لغيرهم لتكون لهم الذكرى نفسها، وعندما تغير أسلوب العمل بقي معنى الاسم مناسبا، فنحن نكون ذكريات جميلة من خلال مفهوم التبادل والذكريات الجميلة لا تموت”.
ويختم زريقات حديثه عن انتقال المبادرة لأماكن أخرى، بالقول “سوف ننقل التجربة من خلال بناء شراكات مع أطراف ناشطة ومهتمة بهذا النموذج في مناطق مختلفة من المملكة والدول العربية من خلال التدريب على نموذج مبادرة (ذكرى) ليتم تطبيقه من خلال الشركاء”.