تراجع الليرة التركية.. سياسة أم اقتصاد؟
في بداية عام 2013 كان معدل صرف الدولار 1.75 ليرة تركية ومنذ ذلك العام، وبالتحديد منذ اضطرابات حديقة جيزي، ومعدل صرف الليرة التركية في تراجع. في بداية عام 2014 ارتفع معدل صرف الدولار إلى 2.27 ليرة لكل دولار، واليوم ووقت كتابة هذا المقال بلغ معدل صرف الدولار 2.557 ليرة، أي أنه على مدار العامين الماضيين تراجعت الليرة بنحو 45 في المائة، وهو تدهور كبير في غضون هذه الفترة الزمنية القصيرة. أخيرا أخذ تراجع معدلات صرف الليرة التركية في التسارع على نحو كبير وقد سجلت في بعض الأحيان مستويات تاريخية، وهو ما أثار القلق حول مستقبل الليرة، وخصوصا أن سجل تركيا في مجال التضخم ليس ناصعا. التراجع الحالي في قيمة الليرة أعاد للأذهان أجواء أزمة 2001، حيث تراجعت الليرة بصورة كبيرة، وهو ما مهد لصعود حزب التنمية والعدالة في 2002، الذي أجرى كثيرا من الإصلاحات الاقتصادية ساعدت على إحداث نقلة كبيرة للاقتصاد التركي.
ارتكز النمو في الاقتصاد التركي على قطاع الإنشاءات ونمو الاستهلاك والاستثمار الأجنبي المباشر وتدفقات رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة، التي تعززت بفعل تراجع قيمة الدولار بعد الأزمة وسعي المستثمرين للتنويع بعيدا عنه وفي ظل معدلات الفائدة شبه الصفرية عليه وكانت تركيا على رأس هذه الدول، وهكذا أصبح الاقتصاد التركي يعتمد النموذج الاقتصادي فيه على تدفقات رؤوس الأموال من الخارج، الأمر الذي ساعد على تراجع معدلات الفائدة في الداخل. غير أن هذا النموذج للنمو كان مصحوبا ببعض المخاطر التي من أهمها ارتفاع حجم الدين الخارجي، الذي بلغ في 2014 نحو 400 مليار دولار، أي ما يمثل أكثر من 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا الدين مرشح للتزايد بصورة كبيرة مع استمرار العجز الجاري الذي تواجهه تركيا.
في عام 2014 انخفض معدل نمو الاقتصاد التركي ما بين 2.5 و 3 في المائة، كما أظهرت قطاعات الصناعة والتجارة تراجعا واضحا هذا العام. من ناحية أخرى، تراجع الإنتاج الصناعي في كانون الثاني (يناير) بنسبة 2 في المائة، كذلك تراجعت الصادرات في شهري كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير)، في الوقت الذي تراجعت الإنتاجية بما لا يتماشى مع معدلات النمو في الأجور. هذا التراجع في النشاط الاقتصادي اليوم تلقى تبعاته على السياسة النقدية للبنك المركزي الذي يتبنى سياسة نقدية متشددة.
اختلفت الآراء حول المسببات الحقيقية لتراجع الليرة، فالبعض يرى أن صعود الدولار أدى إلى ارتفاع مخاطر الاستثمار في العملات الناشئة، الذي ارتفع الدولار في مقابلها جميعا تقريبا، والليرة التركية ليست استثناء من الحالة التي تواجهها العملات الناشئة، فالريال البرازيلي والراند الجنوب إفريقي والبيزو المكسيكي عملات تتراجع أيضا، فإذا ما أضفنا إلى ذلك طبيعة المصاعب التي يواجهها الاقتصاد التركي حاليا، فإن تراجع الليرة قد يبدو طبيعيا، ذلك أن هناك تسارعا في اتجاه المستثمرين في الأسواق الناشئة نحو التخلص من هذه العملات، بعد تعرضهم لخسائر واضحة نتيجة لتراجع هذه العملات بالنسبة للدولار. غير أن معظم المراقبين يعزون التراجع الحالي لليرة إلى أسباب سياسية بحتة مرتبطة بطبيعة الصراع الدائر حاليا بين حكومة أردوغان والبنك المركزي التركي حول المستويات المناسبة لمعدلات الفائدة في تركيا. فمنذ فترة والرئيس التركي يضغط على البنك المركزي لخفض معدلات الفائدة للسماح بنمو الاستثمارات الخاصة، بينما يرهن البنك المركزي هذا الخفض بتطورات معدل التضخم، وقد هاجم أردوغان مدير البنك المركزي قائلا: إنه يدعي أن مهامه الأساسية هي التضخم وثبات الأسعار، وهو ما يعني أن البنك المركزي لا يفهم واجباته الأساسية، من وجهة نظر أردوغان. وقد حاول رئيس البنك المركزي الاستقالة، ولكن استقالته رفضت.
في النهاية استجاب البنك المركزي لضغوط الحكومة في 20 كانون الثاني (يناير) الماضي وقام بخفض معدل الفائدة الأساسي على القروض لمدة أسبوع بـ 50 نقطة من 8.25 في المائة إلى 7.75 في المائة. غير أن هذا الخفض لم يرض أردوغان الذي كان يطمع في خفض أكبر من ذلك باعتبار أن هذا الخفض غير كاف لجذب مزيد من الاستثمارات إلى الدولة ودفع معدلات النمو الاقتصادي في تركيا، فقطاع الإنشاءات، الذي يعد محرك النمو في نظر أردوغان، يتراجع بصورة أكبر من التراجع في الناتج المحلي الإجمالي، بينما ينحسر الإنفاق الاستهلاكي بفعل القيود على عمليات الإقراض للقطاع العائلي، وهو ما دفع أردوغان إلى تصعيد هجومه على مدير البنك المركزي واصفا إياه بأنه باع بلده للغير، وبأنه يستجيب لضغوط الغرب وأعداء تركيا، وهي تهمة تفوح منها رائحة الخيانة وأوصاف أراها قاسية بالفعل لفني يفترض أنه يمارس مهامه في مؤسسة مستقلة.
بالطبع كأي بنك مركزي عينه على النمو ولكن العين الأخرى على التضخم وقيمة العملة، فالبنك المركزي لديه معدل مستهدف للتضخم يساوي حاليا 5 في المائة، وهو ربما يعد معدلا مرتفعا للغاية مقارنة بمعدلات التضخم المستهدفة في الدول الصناعية في العالم، لكن معدل التضخم المستهدف غالبا ما يتماشى مع الاتجاه العام لمعدلات التضخم الفعلي، وفي كانون الثاني (يناير) الماضي بلغ معدل التضخم 7.2 في المائة، وهو أعلى من التضخم المستهدف، ولذلك يقاوم البنك المركزي فكرة خفض معدلات الفائدة لما لها من تأثيرات سلبية في تغذية الضغوط التضخمية واستمرار تراجع قيمة الليرة.
صحيح أن البنوك المركزية في الدول الصناعية تخفض من معدلات الفائدة، لكن الوضع في تركيا يختلف عن هذه الدول، فالدول الصناعية في العالم تواجه مشكلة الانكماش السعري، وبالتالي فإن خفض معدلات الفائدة أو السياسات النقدية التوسعية تساعد في هذا المجال بإيقاف أو تخفيف حدة الاتجاه الانكماشي للأسعار، أما في تركيا فإن الوضع مختلف، حيث تواجه تركيا مشكلة التضخم السعري، وبالتالي فإن خفض معدلات الفائدة يعزز الضغوط التضخمية.
الحجج التي يستند إليها أردوغان هي أن معدلات الفائدة المرتفعة تحدث تضخما أيضا، فضلا عن أنها تخفض النمو لأنها تؤثر سلبا في قرارات الاستثمار لقطاع الأعمال الخاص، كذلك تساعد العملة المنخفضة الصادرات، بينما يرى البعض ألا خوف من التأثير السلبي لرفع سعر الفائدة في التضخم في ظل تراجع أسعار النفط، في الوقت الذي ستحقق فيه تركيا بعض الأهداف الإيجابية بالنسبة للنمو. الخلطة التي يتحدث عنها أردوغان هي معدلات الفائدة المنخفضة والنمو المرتفع للاقتصاد بعملة ضعيفة. هذه الخلطة بالتأكيد لا تناسب البنك المركزي المستقل، الذي له مستهدفات محددة حول التضخم ويعاني تضخما مرتفعا، ويستند إلى تطورات التضخم كدليل لتحديد معدلات الفائدة.
بالنسبة لأردوغان يرى المراقبون أن هدفه الأساسي رفع معدلات النمو، وأن جوهر المطالبة بخفض معدلات الفائدة هو مساعدة الحزب في الانتخابات، حيث يدخل الحزب الانتخابات في حزيران (يونيو) القادم والاقتصاد التركي ينمو بمعدل ما بين 2.5 إلى 3 في المائة، بينما كانت معدلات النمو في الانتخابات السابقة في 2011 ثلاثة أضعاف معدلات النمو الحالي، بل إن وزير الاقتصاد قد أعلن أن اهتمام تركيا في الوقت الحالي ليس معدل صرف الليرة، ولكن النمو الاقتصادي، ولذلك المطلوب من البنك المركزي أن يخفض معدل الفائدة على نحو أكبر.
عندما قام البنك المركزي بخفض معدلات الفائدة تزايد قلق المستثمرين حول مدى استقلالية البنك المركزي ومصداقيته، وهو ما وضع الليرة التركية تحت مزيد من الضغوط مع أنه من المفترض أن البنك المركزي وفقا للقانون مؤسسة مستقلة عن الحكومة لها مستهدفاتها الخاصة التي تسعى إلى تحقيقها لضمان الاستقرار الاقتصادي، وعلى رأسها السيطرة على التضخم وضمان استقرار الأسعار. في رأيي أن وجهة نظر البنك المركزي صحيحة لأن خفض معدلات الفائدة على نحو كبير في ظل هذه الأوضاع من الممكن أن يكون له انعكاسات سلبية على قيمة الليرة وكذلك على رفع معدلات التضخم، وهي نتائج من الممكن أن تهدد تدفقات رؤوس الأموال لاقتصاد يعتمد مع الأسف الشديد بشكل كبير عليها في سد فجوة النقد الأجنبي لديه، وخصوصا أن احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي تعد محدودة جدا بالنسبة للاحتياجات السنوية لتركيا، وأن ما يحتاج إليه البنك المركزي اليوم هو غرس الثقة فيه بأن يكون قادرا على صياغة قراراته بالاستقلالية التامة عن أي ضغوط خارجية.
(المصدر: الاقتصادية 2015-03-28)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews