اقتصادات بلاد المسلمين عبر التاريخ رأسمالية
فهم الرأسمالية جيدا مطلب سابق للحكم عليها. وتجنح أغلب كتب الاقتصاد الإسلامي إلى تصوير الرأسمالية تصويرا يفتقر إلى الدقة. كما أنها تحاكمها وفق معايير لا تسلم من مآخذ. لا أقول ذلك تنزيها للرأسمالية من النقائص، ولكن توخي العدل والموضوعية مطلوب.
معنى الرأسمالية
كأكثر المسميات، ليس هناك معنى أو تصور متفق عليه للكلمة capitalism التي ترجمت إلى رأسمالية، ولكن هناك اتفاق على خصائص الرأسمالية تتركز في خمس خصائص: الملكية الخاصة (ملكية الأفراد والمؤسسات غير الحكومية) والحرية الاقتصادية وحافز الربح وآلية السوق والحد من تدخل الحكومة في الاقتصاد. والخصائص الخمس ترجع في النهاية إلى الخصيصة الأولى الملكية الخاصة.
ولذا يتفق علماء الاقتصاد على أن جوهر الطريقة أو النظام الاقتصادي الرأسمالي، هو هيمنة الأفراد والمنشآت غير العامة (الحكومية) على ملكية وسائل أو عناصر الإنتاج رأس المال والأرض، بغرض الربح. "إن قدرة هؤلاء على التملك والحصول على ربح من رؤوس الأموال التي يملكونها هي ما أعطت الرأسمالية اسمها"، بول ساملسون في كتابه "الاقتصاد"، وهو من أشهر إن لم يكن أشهر كتاب في تدريس مبادئ الاقتصاد على مستوى العالم، وترجم إلى عشرات اللغات وطبعت منه ملايين النسخ.
احترام الملكية الخاصة يعني بالضرورة أن الأصل في توزيع /تخصيص الموارد والاستثمار والأسعار هو آلية السوق، ولذا تسمى الرأسمالية أحيانا باقتصاد السوق. أما الحد من تدخل الحكومة فينبغي أن يفهم في إطار التاريخ الاقتصادي الأوروبي الذي هو المقصود عند الحديث عن نشأة الرأسمالية. كان النشاط الاقتصادي في أوروبا قبل سيادة الرأسمالية خاضعا لطريقة feudalism التي ترجمت إلى نظام الإقطاع أو الإقطاعية الذي يقوم على وجود طبقة إقطاعية تملك الأرض، ويعمل لدى هذه الطبقة مزارعون أشبه بالأرقاء، حيث ليس لهم حق التملك. ثم مرت أوروبا بفترة انتقالية تخللتها ثورة صناعية وسياسية وحقوقية. في تلك الفترة تطورت بداية الرأسمالية.
انطباق الرأسمالية على النظام الاقتصادي السائد في بلاد المسلمين
لو طبقنا تعريف أو معنى الرأسمالية من حيث جوهرها على المجتمعات الإسلامية، فماذا نجد؟ نجد مجتمعات ينطبق وصف الرأسمالية على اقتصاداتها. حيث من المعلوم أن النظام الاقتصادي السائد في المجتمعات الإسلامية على مر القرون يقوم على سيادة الملكية الخاصة، وهيمنة الأفراد والشركاء على ملكية عناصر الإنتاج "رأس المال والأرض"، وهذا ما أقرته الشريعة، من حيث المبدأ والأصل.
وأقول أقرته، لأن حق الإنسان في التملك والحصول على ربح، كان الوضع السائد، على الأقل في مشرقنا العربي قبل ظهور الإسلام، وجاء الإسلام وأقر هذا الوضع، والأدلة أكثر من أن تحصى على إقرار الإسلام للملكية الخاصة وما يتفرع من هذا الحق، كحق البيع والحصول على ربح منها. وهذا ما يفتي به الفقهاء ودور الإفتاء والهيئات الفقهية كمجمع الفقه الإسلامي، وعند كل هؤلاء أن الأصل احترام الملكية الخاصة. وطبعا هذا الأصل لا يناقض وجود اعتبارات تجعل الملكية أو التصرف غير مشروع، مثلا تحرم الشريعة على المسلم تملك وبيع سلع محرمة كالخمر، وتحرم بعض الممارسات التجارية، وتحرم أكل المال بالباطل، وأخذ الرشوة، وهكذا. وباختصار، دلت نصوص الكتاب والسنة على أن احترام الملكية الفردية، من حيث الأصل، والحقوق المترتبة على ذلك كالحصول على ربح، والبيع والهبة، وهذه موضع إجماع بين فقهاء المسلمين عبر القرون. والقيود على الملكية والحقوق المترتبة عليها موجودة حتى في الرأسمالية بصورتها السائدة في القرن التاسع عشر، فمثلا، هناك قوانين تمنع بعض التصرفات. والخلاصة أن الشريعة الإسلامية توافق على الرأسمالية من حيث الأصل.
وبمعنى آخر، الممارسات التجارية السائدة في المجتمعات الإسلامية، منسجمة أو تدل على وجود مبادئ الرأسمالية الكبرى التي نوهت إليها سابقا، في تلك المجتمعات.
معروف أن الممارسات التجارية في المجتمعات التي تطبق الشريعة بها مخالفات. إلا أنه لا يصلح موضوعيا، استخدام هذه المخالفات للطعن في أصل الشريعة. وبالمثل، إذا كانت الممارسات في المجتمعات الأخرى الرأسمالية بها مخالفات، فإنه لا يصلح موضوعيا استخدامها للطعن في أصل الرأسمالية.
(المصدر: الاقتصادية 2015-02-09)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews