شجرة الرمان: عصير ودبس ودواء...وذكريات
جي بي سي نيوز :- شجرة قوية قاومت السنين، هرمت ولا زالت معطاءة. تزهر كل سنة، تثمر حِمْلاً يفوق طاقتها، فتتدلى أغصانها وتنحني من ثقل الثمار، يسندها عمي بعصا طويلة، أو يرفع غصونها بحبل ويثبّتها إلى الجدار. تغدق علينا رمّانها كل موسم بكرم لا محدود، نأكل من خيرها حتى الشبع، ونصنع من عصيرها الحامض دبساً يكفي مونة البيت طوال العام.
نسميه دبس الرمان، ويطلق عليه البعض رُبْ الرمان. وقد ارتبط هذا الدبس بعادات الطعام في قرانا الجبلية عموماً. فطبق الفتوش يبقى ناقصاً من دون دبس الرمان، وكذلك فطائر السبانخ والكشك، وورق العنب بالزيت، والبيض المقلي، وغيرها.
تنضج شجر الرمان في الخريف، وتضيق القشرة النحاسية على حباتها الحمراء الياقوتية، فتتشقق معلنة موعد القطاف.
يوم قطف الرمان، هو يوم عائلي، فلكل فرد من العائلة دوره في هذا اليوم الطويل، الذي يبدأ بالقطف ثم يليه التقشير، ومن ثم العصر وبعده التصفية، حتى الوصول إلى غلي العصير ليصبح دبساً. مراحل متتالية تتطلب جهداً تخففه كثرة الأيادي وتعاونها، وتحتاج وقتاً.
تدبيس الرمان اليوم لم يعد كالسابق، صار إنجازه أسرع بفضل التكنولوجيا، كما أنّ أدواته تغيرت واستبدل قديمها بالجديد.
"
نفرك كفوفنا بالقشر لنتشبه بالنسوة اللواتي يلون أكفهن بالحناء
"
بعد قطف الرمان، تقطع الثمار إلى أنصاف، ويُقلب نصف الرمانة فوق كف اليد، ويُضرب ضربات خفيفة بملعقة خشبية، فتبدأ الحبات بالتساقط. وعملية الضرب هذه تسرّع مرحلة فرط الحبات وفصلها عن قشورها وتختصر الوقت. كان يُمنع علينا ضرب الرمان ونحن صغار، لأن الضربات لها ميزانها، فإن كانت خفيفة تبقى الحبات عالقة بين القشور، وإن كانت قوية، تنعصر الحبات ويتناثر عصيرها.
وللقشور فوائد كثيرة. تعالج مشاكل الإسهال والبواسير والإمساك والتهاب القولون وآلام المعدة والنزيف الشرجي. أما إذا جرى تحميصها وطحنها وخلطها بماء الورد وعصير الليمون، فتتحول إلى مرهم يشفي الدمامل والبثور ويزيل حب الشباب والرؤوس السوداء من الوجه. كما يمكن الغرغرة بالمسحوق المضاف إلى الماء لإزالة التهابات الحلق والحنجرة والتخلص من رائحة الفم الكريهة.
بعد الانتهاء من فرط حبات الرمان تأتي مرحلة عصرها. وكان العصر يتم بواسطة المطحنة اليدوية، لكن اليوم تستخدم النسوة غالباً المطحنة الكهربائية.
ومن الملفت أنّ العديد من المطاعم صارت تقدم عصير الرمان، الذي زاد الطلب عليه. كما أنّ فوائده كثيرة، ليس أقلها أنّه يحارب هشاشة العظام ومرض الزهايمر ويبطئ نمو الخلايا السرطانية.
بعد العصر مباشرة، يصفى العصير بمصفاة رفيعة جداً، حتى لا يبقى فيه أي أثر للبذور أو اللحاء الذي يغلف الحبات. ثم يوضع في طنجرة مطلية بمادة الستانلس، فالألمنيوم أو الحديد لا يصلح لأنهما يتفاعلان مع حموضة العصير. ولا زال البعض يستعملون كما في الماضي دست النحاس.
وتتعاون النسوة على تحريك العصير الذي يشتد كلما طال غليانه. وقبل رفع الدبس عن النار بنحو عشر دقائق، تضاف له كمية مناسبة من الملح الخشن. ولا ينتهي تحضير الدبس، إلاّ عندما يشتد ويغمق لونه إلى السواد.
يسكب دبس الرمان في قنانٍ زجاجية، ولا تغلق فوهاتها إلاّ بعد أن يكون الدبس قد برد تماماً. توزع قناني الدبس على المشاركين في التدبيس.
تعلق في البال بعض ذكريات الطفولة عن يوم تدبيس الرمان. أهمها أننا كنا نمرغ شفاهنا بقشر الرمان حتى تتلون، لكننا غالباً ما كنا نُلح بفركها، فتتشقق وتؤلمنا. كما كنا نفرك كفوفنا بالقشر أيضاً، فتصبح بنيّة غامقة، لكي نتشبه بالنسوة اللواتي يلونّ أكفهن بالحناء.
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews