فتحت السفارة أبوابها وبقيت السلبيات
الطريقة الهادئة التى تعاملت بها مصر الرسمية، مع أزمة غلق السفارة البريطانية، أكدت أن العلاقات عميقة بين البلدين،
عكس ما حاول البعض تصديره لنا، إعلاميا وسياسيا، عن قصد أو دونه. فقد تم جلاء السحابة الأمنية، وفتحت السفارة أبوابها فى القاهرة، لكن بقيت مجموعة دروس من الضرورى إمعان النظر فيها، لأن استمرارها يمكن أن يؤدى إلى مزيد من التداعيات السلبية.
بعض هذه الدروس استخلصته من الاتصال الهاتفي، الذى جاءنى من الأمير عثمان المستشار الإعلامى للسفارة البريطانية فى القاهرة. فعندما كتبت الأسبوع الماضى فى هذا المكان مقال «الوجه الآخر لأزمة السفارات»، كنت أشعر أن هناك شيئا مريبا يقف وراء التصعيد غير المفهوم، الذى حاول البعض جرنا إليه، لكن لم أكن أدرك أن علاقتنا مع بريطانيا عميقة وقوية وواعدة، إلا بعد هذا الاتصال، الذى أبدى صاحبه انزعاجا شديدا من الهجوم الإعلامي، الذى تعرضت له البعثة الدبلوماسية، وكمصرى خشى أن تكون له تأثيرات سلبية فى المستقبل، فى وقت بدأت فيه بريطانيا تتجه عمليا نحو تعزيز العلاقات مع مصر، اقتصاديا وسياسيا وعلميا أيضا.
دلل الرجل على صدق كلامه بعدد من المؤشرات. أهمها، أن زيارة السفير البريطانى جون كاسن لمحافظة المنيا أخيرا، التى جرى التهكم عليها، كانت لافتتاح مشروع لمساعدة الأسر الفقيرة فى مصر. وقصد من تجوله بين المواطنين فى شوارع المنيا توصيل رسالة تطمين للشعب البريطاني، بأن هذه المنطقة آمنة ومستقرة، بعد أن كان ممنوع زيارتها. وتساءل المستشار الإعلامي، من المستفيد من تخريب هذا العمل؟ وإذا كانت الجهود المخلصة تتعرض لتشويه متعمد، هل يستطيع السفير البريطانى أو غيره مواصلة العمل فى أجواء أصبحت مليئة بالتربص ؟....
لم أقاطعه، وتركته يستكمل كلامه، موضحا أن هناك وفدا اقتصاديا كبيرا سوف يزور مصر فى شهر يناير المقبل، يضم عددا من رجال الأعمال، وممثلى الشركات، وبعض المسئولين، لتوثيق العلاقات فى الحقل الاستثمارى الذى يحمل ملامح تفاؤل فى مصر، وحرص الوفد أن تكون زيارته قبل المؤتمر الاقتصادى المتوقع عقده فى مارس المقبل، وأراد أن يؤكد خصوصية العلاقة مع مصر بالحضور مبكرا. وقد زار القاهرة قبل أيام وفد ما يسمى أصدقاء مصر فى مجلس العموم البريطاني, وجاء تأكيد فيليب هاموند وزير الخارجية الروابط القوية، مع قرار إعادة فتح السفارة، ليضفى حيوية سياسية إلى جانب العافية الاقتصادية. وأشار «الأمير» إلى زيادة كبيرة فى عدد المنح الدراسية والعلمية المقدمة إلى مصر.
الجزء السابق، حمل ملخصا للمكالمة التليفونية التى أجراها معى المستشار الإعلامي، لكن بقيت ثلاث ملاحظات أساسية، تكشف أيضا عن وجه آخر للأزمة، ربما يكون ضاع وسط الضجيج، مع أنه شديد الأهمية.
الأولي، غموض بيانات السفارة البريطانية منذ اللحظة الأولي. ومع أن «الأمير» قدم تبريرات وتفسيرات تبدو مفهومة، وسط غياب تام للموضوعية عند اندلاع الأزمة، إلا أنها لم تكن مقنعة. فقد أدت حصيلة هذه الحالة إلى زيادة حدة التصعيد، ووجد فيها أصحاب النيات السيئة فرصة للمزايدة السياسية. كما أننى عاتبته على التقصير وتجاهل توضيح طبيعة التوجهات الإيجابية لبريطانيا نحو مصر، سواء فى الشق الاقتصادى أو السياسي. وهو ما سمح بتغليب رؤى سلبية تقليدية وجامدة من الماضي، وإسقاطها على واقع جديد حافل بالمتغيرات، تحكمه جملة كبيرة من المصالح المهمة. فإذا كانت بريطانيا تملك رؤية ناضجة، فلماذا تركتنا نتخبط، وتسمح بتشويه سمعتها؟
الثانية، عدم إدراك من تطوعوا بالهجوم على البعثة الدبلوماسية، لعواقب وانعكاسات موقفهم على الشعب البريطاني. وتجاهل السفارة تأثيرات صمتها وغموضها منذ البداية على الشعب المصري. فالفريق الأول، تناسى أن عدم تقدير المساعدات التى تقدمها لندن لمصر، معناه فشل ذريع لسياسات الحكومة البريطانية، التى يملك مجلس العموم والشعب هناك محاسبتها، وبالتالى عدم استبعاد الضغط عليها لتغيير دفتها، نحو وجهة مغايرة، مادام أنها لم تلق تقديرا أو استحسانا، وفشلت فى توثيق العلاقات، مع أنها تبذل جهدا مضنيا.
كذلك الفريق (البريطاني) الذى اعتمد على أن علاقته مع الحكومة المصرية قوية، وحرص على التنسيق معها مبكرا، يمكن أن يتضرر، لأن العلاقات بين الشعوب لا تحكمها متانة أو ضعف مع الحكومات. وهذا أهم درس عملى يجب أن تستوعبه البعثة البريطانية، حتى تكون التصورات الرسمية الجيدة، منسجمة وتسير بالتوازى مع التصرفات على المستوى الشعبي. وعليها أن تبحث عن طريقة تزيل بها، ما حدث من التباس حول بعض القضايا، لأن سخاء المساعدات، مهما تكن، لن يغطى على أى تجاوز بسيط يمس كرامة المصريين.
الثالثة، النتائج السياسية السلبية، التى تضر بمصالح الدولة. فالبعض يتطوع بإخراج قضايا كثيرة من إطارها الزمنى والمكانى المحدود، ويصل بها إلى أفق غير محدود. وتذكرنا طريق التعامل الساذج مع أزمة السفارات الأمنية، بأزمتنا الكروية مع الجزائر. فكل منهما انتقلت من فضاء ضيق إلى آخر مفتوح. والمشكلة أن الأزمة تنتهي، لكن تترك معها آثارا تلازمنا فترة طويلة. ورغم كل المحاولات السياسية لتصفية الأجواء مع الشقيقة الجزائر، غير أن هناك من لم يستطع النسيان والتجاوز. والسبب نقص الوعى والثقافة لدى من تصوروا أنهم امتلكوا الحكمة. الأمر الذى نراه يتكرر من حين لآخر، لأن القاموس الذى استخدمته وجوه متسلطة سابقة، لا تزال غالبية مفرداته باقية.
لذلك على الحكومة أن تتدخل وتعمل على سرعة ضبط قوانين الإعلام، قبل أن تقع كارثة جديدة، تلقى على كاهلها مشكلة ثقيلة، تضطرها للبحث عن حلول باهظة التكاليف. فتجاوز أزمة السفارات، لا يعنى عدم تكرارها، فى مجالات أخري، مادام أن هناك من يصمم على استمرار الإساءة، وهو متصور أنه يدافع عن الوطن.
(المصدر: الأهرام 2014-12-18)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews