الأقطاب السياسية وشكل الحكم المقبل في تونس
قبل أقلّ من أسبوع عن موعد الانتخابات التشريعية، بدأت الملامح الكبرى للمشهد السياسي التونسي تتّضح حيث يمكن أن نرصد فيه خمسة أقطاب سياسيّة متنافسة على الحكم وهي: الإسلاميّون ومن والاهم والجبهة الشعبيّة ونداء تونس والاتّحاد من أجل تونس وأحزاب النظام القديم. هذه الأقطاب الخمسة هي التي ستتقاسم السلطة التشريعيّة في البرلمان التونسي القادم ابتداء من مطلع سنة 2015. ولئن بدأت الملامح الكبرى للمشهد السياسي الانتخابي تظهر، فإنّ شكل الحكم بعد الانتخابات مازال غامضا. فما هو تقييم الحملة الانتخابيّة؟ وما هي طبيعة التحالفات الممكنة للحكم؟ وأيّها الأضمن للاستقرار السياسي ولتحقيق أهداف الثورة؟
إنّ غموض شكل الحكم وطبيعته بعد انتخابات 26 أكتوبر البرلمانيّة و23 نوفمبر الرئاسيّة القادمتين لا يطمئن التونسيّين على مستقبل بلدهم لا سيما في ظلّ التجاذب الكبير بين الأقطاب السياسيّة الخمسة التي ذكرناها. لكن، مع ذلك، تسجّل تونس حملة انتخابيّة أفضل بكثير من تلك التي وقعت في 23 أكتوبر 2011 والتي كانت قد شهدت إغراق العمليّة الانتخابيّة بالمال السياسي الذي أثّر في نتيجة الانتخابات إضافة إلى توظيف المساجد تحت الشعار الديماغوجي المغالط “الإسلام في خطر” الذي غلّب حركة النهضة وحلفاءها وأشباهها على الأحزاب التقدميّة والديمقراطيّة. كما تعود أفضليّة انتخابات 26 أكتوبر إلى نشاط المجتمع المدني ويقظة جمعيّات مراقبة الانتخابات وحياد الحكومة وفاعليّة أجهزة الدولة وجاهزيّة أجهزة الأمن والجيش.
وتبقى الإعاقة الكبرى لهذه الانتخابات متمثّلة في الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات التي كان مردودها أضعف من مردود هيئة كمال الجندوبي التي أشرفت على الانتخابات السابقة. فلقد تعلّقت بالهيئة الحاليّة جملة من النقائص والإخلالات والهنات منها ما تعلّق بعدم حياد بعض المنتمين إلى فروعها الجهويّة وعدم سيطرتها على مسألة التزكيات وعدم قدرتها على حماية قاعدة بياناتها من الاختراقات.
نأتي الآن إلى محاولة استقراء المشهد السياسي بعد الانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة. نلاحظ بدءا أنّ حركة النهضة تؤجّل موقفها العلني من مرشّحي الرئاسة إلى ما بعد الانتخابات التشريعيّة. كما أنّ التنافس على الرئاسيّة لم يحتدّ بعد عدا منصف المرزوقي الذي بدا مرتبكا بسبب فقدان دعم الإسلاميّين. فاستعار بعض شعاراتهم التي أساسها مهاجمة الإعلام ومعاداة الاتحاد العام التونسي للشغل. وبنى حملته على شعارات الهويّة والعروبة والإسلام إضافة إلى شعار جديد مستوحى من برنامج الجبهة الشعبيّة هو شعار العدالة الجبائيّة.
كما نذكّر بأنّ القانون الانتخابي لا يسمح بوجود أغلبيّة مطلقة في البرلمان وأنّ الدستور التونسي يبيح للحزب الذي يفوز بأغلبيّة ولو كانت نسبيّة هو الذي يتولّى تشكيل الحكومة. لو فازت حركة النهضة بالأغلبيّة فستجد نفسها أمام إلزاميّة تكرار تجربتي الترويكا المرّتين وهي غير قادرة على تحمّل فشل ثالث سيكون بمثابة الضربة القاصمة والنهائيّة للإسلام السياسي عموما. من هنا يأتي حديث الغنوشي المتكرّر عن حكومة وحدة وطنيّة بعد الانتخابات وعن أنّ تونس لا يمكن أن تحكم بـ50 زائد واحد أبدا.
المشكلة هي في من سيتحالف مع النهضة من الأقطاب التي ذكرناها لتشكيل حكومة تحت قيادتها لا سيما أنّ الجبهة الشعبيّة تعلن عن أنّها لن تتحالف مع النهضة بأيّ شكل من الأشكال. والاتّحاد من أجل تونس يؤكّد رفضه القطعي التعاطي مع النهضة. أمّا نداء تونس فإنّه يتحرّك في دائرة المناورة حين يعلن أنّه والنهضة خطّان متوازيان لا يلتقيان إلاّ بإذن الله، وإذا التقيا فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
هذا التحليل قد يرجّح خيارا كرّره رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أكثر من مرّة وهو تكليف رئيس الحكومة المؤقّتة الحالي مهدي جمعة بتشكيل حكومة جديدة مستثمرة إجماع الحوار الوطني حول شخصه للخروج من الأزمة المحتملة وسحب التبريرات من أمام نداء تونس والاتّحاد من أجل تونس ليدخلا في حكومة لا يقودها نهضوي وإن كانت النهضة هي الفائزة.
وإذا فشلت المحاولة ستمرّ حركة النهضة إذا فازت بالأغلبيّة إلى الخطّة ب والتي تتمثّل في التحالف مع أحزاب النظام القديم لتشكيل حكومة جديدة.
وهنا تستثمر النهضة جهدها في إسقاط الفصل 167 من القانون الانتخابي المتعلّق بالعزل السياسي والذي لو تمّ تمريره لما تمكّنت الأحزاب الدستوريّة والتجمعيّة من المشاركة في الانتخابات. بهذا المعنى يمكن أن نفهم دعوة الغنوشي إلى تجريم مدح النظام القديم والاستعداد للتحالف معه في ظلّ حكومة وحدة وطنيّة في الوقت نفسه. فدعوة الغنوشي إلى تجريم مدح النظام القديم مبرّرها الخشية من تضخّمه بمعنى أن يكون النظام القديم في ركاب النهضة لا أن تكون النهضة في ركابه.
أمّا السيناريو الثاني الذي تخشاه حركة النهضة ولا تتمنّاه أبدا فهو أن تفوز الجبهة الشعبيّة ونداء تونس والاتّحاد من أجل تونس بالأغلبيّة النيابيّة ويكون أحدها صاحب الأغلبيّة النسبيّة التي تؤهّله لتشكيل حكومة. وذلك يعني أنّ ثلاثتها ستؤلّف حكومة ائتلافيّة مع بقيّة الأطراف الديمقراطيّة الصغيرة. وحينها سيتمّ إبعاد النهضة وأحزاب النظام القديم عن الحكم.
هذا السيناريو لا يخفى عن الإسلاميّين ولا عن النظام القديم. ولذلك هما يتبادلان المغازلات باستمرار. وحركة النهضة لن تتوانى عن أيّ تحالف يحفظ لها مشاركتها في الحكم للدفاع عن مصالحها ومواصلة التغطية عن التخريب الذي طال الدولة وأمنها ودبلوماسيّتها أثناء حكم الترويكا.
هناك لاعب صامت غير معني بالحكم ولكنّه معني بالسياسة وبمستقبل تونس وسيكون مرجّحا في الانتخابات القادمة نظرا إلى ثقله الاجتماعي هو الاتّحاد العام التونسي للشغل الذي سيدعم الأطراف التي تدافع عن حقوق الطبقات الضعيفة والفئات الفقيرة والتي تحترم الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة للشغّالين كما أكّد في بيانه الأخير. وهذه الأطراف ليست حركة النهضة طبعا ولا الأحزاب الليبراليّة.
كما أنّ اتّحاد الصناعة والتجارة، وهي منظّمة الأعراف في تونس، لن يكون محايدا بل سيدعم أطرافا بعينها لا سيما أنّ أصحاب رأس المال غزوا القائمات الحزبيّة والمستقلّة طمعا في الفوز بمقاعد برلمانيّة للدفاع عن مصالحهم. ولا نعتقد أنّ بقيّة المنظّمات الكبرى كالرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنيّة للمحامين وجمعيّة النساء الديمقراطيّات وشبكة دستورنا ستظلّ خارج اللعبة الانتخابيّة لا سيما أنّ من بينها من كان ضمن ائتلافات مثل ائتلاف جبهة الإنقاذ الذي تشكّل في جويلية 2013 للتصدّي لاستيلاء الترويكا على الحكم وإنقاذ تونس من الإرهاب ومن السقوط الاقتصادي.
(المصدر: العرب 2014-10-21)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews