هل استفاد إسلاميو تونس من السيناريو المصري
كثيرا ما قال قياديون في حركة النهضة التونسية المقربة من تنظيم الإخوان إنهم استفادوا من السيناريو المصري وما جرى لجماعة الإخوان التي اختارت أن تدخل لعبة ليّ الذراع مع المؤسسة العسكرية.
وظهرت تصريحات لقيادات بينهم رئيس الحركة راشد الغنوشي تقول إن الإخوان لم يعرفوا كيف يناورون لامتصاص موجة الغضب الشعبي على سياساتهم، وإنهم ذهبوا إلى المواجهة العنيفة ولم يقدّروا حجمهم ولا موازين القوى في المشهد المصري وقتها.
لكن، هل أخذ إسلاميو تونس بدروس المشهد المصري، أم أن الكلام السابق مجرد ترف وإيهام بوجود فوارق بين المجموعتين الإخوانيتين ليس أكثر؟
هذا السؤال يجد مشروعيته في المشهد الراهن حيث تستنفر الحركة الإخوانية كل قواها للتأكيد على أنها الرقم الأبرز حظا للفوز في الانتخابات التشريعية التي تجري فعالياتها يوم 26 من الشهر الجاري.
ومن المهم الإشارة إلى أن عمليات التحشيد والاستنفار يشرف عليها الغنوشي شخصيا بصفته رئيس الحركة، أي أنها خطوة مدروسة، ولم تكن عملا معزولا تتبرأ منه الجماعة مثلما حصل مع تصريحات سابقة للرجل الثاني في التنظيم عبدالفتاح مورو أو تصريحات رؤساء سابقين للحركة مثل الصادق شورو أو الحبيب اللوز.
الغنوشي أقام اجتماعات كبرى في محافظات مثل القيروان وسوسة وبنزرت وصفاقس، في رسالة قال مراقبون ونشطاء إن الهدف منها هو تأكيد قوة الحركة وجماهيريتها، ومن ثمة أنها هي الأقوى والأولى بالحكم.
وإذا كان المنطق يقول إن من حق النهضة أن تفوز وتحكم، إلا أن الواقع يقول إن الأسلوب الاستعراضي الذي قامت به كأنما يهدف إلى استفزاز خصومها وكل الذين تظاهروا ضد سياساتها أو أنها تريد أن تجمّعهم من جديد ضدها لتعود البلاد إلى نقطة الصفر.
لقد قال قياديو النهضة في السابق إنهم تنازلوا عن الحكومة لطمأنة التونسيين أنهم لا يريدون احتكار السلطة، ولا تغيير النمط الاجتماعي في البلاد، ولا الالتفاف على الدولة الوطنية التي تأسست بمقاييس خاصة بعد الاستقلال.
وحوّلت “النهضة” تطميناتها إلى نص مكتوب خلال الحوار الوطني الذي رعاه اتحاد الشغالين، كما أدى الغنوشي وحمادي الجبالي (رئيس حكومة النهضة الأولى) زيارات إلى عواصم غربية مهمة ليقولوا لها إن النهضة لا تريد الحكم وإنها تريد الاستقرار والمشاركة في إنضاج التجربة الديمقراطية التي تحفظ تعددية الأحزاب والأيديولوجيات.
فما الذي جعل قيادة النهضة تتخلى عن تعهداتها بعدم السعي للسيطرة على السلطة والحفاظ على المشهد التعددي في المؤسسات المنتخبة، وتنقلب تماما باتجاه التحشيد وإطلاق الشعارات التي تضخم الأنا وتقلل من الآخرين ووصفهم بالفلول والفاشلين؟
هل ثمة ما يخيف التونسيين أكثر من التحشيد في ملاعب الكرة وفي الساحات العامة واستعادة خطاب امتلاك الحقيقة، وهو المنطق ذاته الذي قاد الجماعة إلى مواجهة غير متكافئة مع الرئيس السابق زين العابدين بن علي بعد انتخابات 1989 التي أعلن فيها مرشحون مستقلون مرتبطون بالحركة شعارات تلوّح بالانقلاب على مقومات المجتمع التونسي الحديث.
وبالرغم من مواجهة 1989، وصدامات 1991 وصولا إلى أزمة (2011 – 2014)، فإن اجتماعات النهضة وشعاراتها وتدوينات أتباعها على شبكات التواصل الاجتماعي تفتح الأبواب مشرعة أمام مواجهة جديدة مع الجهات التي ما تزال تتخوف من تغوّل التنظيم وأخونة المؤسسات واستعادة الخطاب المتمسك بتطبيق الشريعة والذي قد تكون الحركة تخلت عنه إلى حين من خلال الدفع برموزه إلى الظل (شورو واللوز).
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن المواجهة بين إخوان مصر وبين المؤسسة العسكرية المسنودة شعبيا لم تكن فقط من أجل السلطة، وإنما بسبب مخاوف تملكت فئات كثيرة من المجتمع من أن يتولى الإخوان فرض نمط اجتماعي متشدد على الناس، واشترك في تلك المواجهة المثقفون والفنانون والمحامون ورجال الأعمال والفقراء والمهمشون والبلطجية.
وهو المشهد نفسه الذي حدث في تونس، وإن بدرجة أقل حدة، حيث لم يقف ضد النهضة فقط منتسبو اليسار أو “الفلول” وإنما مثقفون وفنانون وأدباء وجامعيون وعمال اتحاد الشغل والمهمشون، وتكفي الإشارة هنا إلى انتفاضة مدينة سليانة التي عرفت بانتفاضة “الرشّ” ضد حكومة النهضة الثانية التي قادها الأمين العام الحالي للحركة علي لعريض.
هناك مؤشرات على أن النهضة تستثمر بشكل جيد التشتت الذي تعيشه العائلات السياسية المناوئة لها، وأنها قد تعود الكتلة الأولى في البرلمان القادم، ما قد يسمح لها بأن تكون الطرف الأقوى في أي حكومة خلال السنوات الخمس القادمة، لكن كيف ستتصرف مع عودة الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات والإضرابات اليومية؟ هل هي قادرة على مجاراة خمس سنوات من الفوضى وتحمل مسؤولية تهاوي اقتصاد مُتَهَاٍو بطبعه؟
إن الاستفادة من السيناريو المصري لا تتم إلا بتنازلات استراتيجية من الحركة تجعل الحكم أمرا ثانويا أمام تركيز تجربة التوافق التي يطرحها الغنوشي حيثما حلت بما تعنيه من تخلّ عن منطق المغالبة إلى بناء شراكة تقوم على تكافؤ في التمثيل والاقتراح بقطع النظر عن ثنائية الأغلبية والأقلية.
وستكون النهضة أحد أكبر المستفيدين من هذه الشراكة لأنها ستمثل لهم غطاء يحول دون السيناريو المصري من جهة وتسمح لهم ولغيرهم ممن دخلوا المشهد بعد 2011 إلى التدرب على العمل في مؤسسات الدولة وتربية النفس على التفريق بين المصلحة العامة والمصلحة الحزبية، فضلا عن خلق مناخ اجتماعي وفاقي ملائم للبناء.
لقد فشلت حكومتا النهضة في إدارة الأزمة التونسية ليس فقط بسبب ما تسمّيه تحالف الخصوم ضدها، بل لأن الوزراء وكتاب الدولة والمسؤولين الذين زجت بهم للحكم لم يكونوا يعرفون غير التصريحات الإعلامية فاضطروا إلى الاستنجاد برموز من الإدارة القديمة ليسيّروا الأمور، وهو ما سمح باستشراء الفوضى الإدارية والفساد والمحسوبية.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن النهضة مطالبة بأن تحسم أمرها فإما أن تواصل جسر الهوة بينها وبين منظومة الدولة والأطراف الفاعلة فيها، أو الاستمرار في مغازلة المجموعات الحزبية الصغيرة التي تتمترس وراء شعارات الثورة والعزل السياسي، وهي مجموعات ستجد نفسها على الهامش بعد ثلاث سنوات من الأزمات متعدد الابعاد والأوجه.
(المصدر: العرب 2014-10-19)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews