تحديات الوحدة الأوروبية
ليس مثل صواب الرؤية الألمانية لمفهوم الوحدة الوطنية والأوروبية، ما يعزز الاعتقاد بأن المشاعر القومية، مهما كانت حساسيتها وتنوعاتها، قابلة لأن تذوب في خيار الوحدة. على خلاف تجارب بلدان المعسكر الشرقي التي آلت إلى التفكك واستقلال كيانات، كانت ضمتها الإمبراطورية السوفياتية إليها قسراً، خلال فترات الحرب الباردة، لجأت ألمانيا إلى توحيد شطريها الشرقي والغربي. وشكلت استثناء في تداعيات انهيار المعسكر الأحمر.
مناسبة الاستحضار أن بلداناً أوروبية عدة، بدأت تترنح تحت وطأة المطالب الانفصالية، من اسكوتلاندا البريطانية إلى كاتالونيا الإسبانية، وصولاً إلى مناطق شمالية في إيطاليا. من دون أن يتوقف النزيف الذي لا ينتظر سوى البداية. غير أن الأوروبيين الذين واجهوا محاولات تفكيك أوكرانيا، بداية بقضم الدب الروسي شبه جزيرة القرم، عبر فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على موسكو، يضعون أياديهم على قلوبهم في انتظار استفتاء اسكوتلاندا راهناً وكاتالونيا لاحقاً. مع فارق في أن نزعة الانفصال تختلف بينها حين تصدر بفعل ضغوط خارجية، كما في حال روسيا ومناصريها من ذوي الأصول المتطابقة. وبينها حين تصدر عن استفتاءات التعبير عن الإرادة التي تحتمل كل النتائج. غير أن الإسبان يحتمون بالوثيقة الدستورية التي تحظر استفتاء ذا مرجعية انفصالية، فيما البريطانيون لا بديل أمامهم من دون انتظار خلاصات الاستشارة الشعبية.
في فرضيات أقرب إلى منطق الدولة والوحدة أن الاستفتاء على مستقبل أقاليم غير مسجلة في قوائم النزاعات السياسية والقانونية بين الدول أمام الأمم المتحدة، لا يشمل المناطق التي تطالب بالاستقلال فقط، بل كل أجزاء الدولة المعنية بتلك الاستشارة. وفي المغرب توجد سابقة من هذا النوع. فقد طرحت الرباط في مطلع ثمانينات القرن الماضي خطة استفتاء في إقليم الصحراء أمام منظمة الوحدة الأفريقية، ورد زعيم المعارضة وقتذاك عبد الرحيم بوعبيد بأن الشعب المغربي يجب أن يستفتى أولاً إن كان يقبل منطق الاستفتاء. وكان نصيبه سنوات سجن، لأنه عارض توجهات الشرعية الدولية. لكن استفتاء الصحراء الذي صنفته الأمم المتحدة أنه أصبح متجاوزاً. توقف عند إشكالات المؤهلين للاقتراع المتحدرين من أصول صحراوية. وكانت تلك أكبر عقدة حالت دون إحراز التقدم الكافي.
ليست بريطانيا أو إسبانيا أو إيطاليا أو غيرها التي تواجه خيارات صعبة. ولكنها الوحدة الأوروبية تتعرض لامتحان عسير. وفي الوقت الذي أمضى فيه الشركاء الأوروبيون وقتاً غير هين للتوصل إلى صيغة الوحدة النقدية التي عززت الوحدة الاقتصادية والسياسية، بعد اختيار سكة السوق الأوروبية المشتركة التي أعطت شارة الانطلاق للتوجهات الوحدوية، سيكون عليهم التحلي بضبط النفس إزاء المسلسل الجديد لانفراط عقد الدولة الموحدة.
إنهم من الناحية الديموقراطية والاعتبارات القومية ومتطلبات الخصوصية الذاتية، لا يمكن أن يواجهوا نزعات متنامية في طلب الاستقلال، باعتبار أن تقرير المصير حق كوني مقدس، إلا من خلال الدفع في اتجاه ترسيخ خيار الوحدة. فعلوا ذلك بوسائل شتى من قبيل تكريس أنظمة الحكم الذاتي التي منحت المقاطعات والأقاليم صلاحيات أكبر في إدارة شؤون السكان، عبر برلمانات وحكومات محلية. لكن الأزمة الاقتصادية والمالية التي ألقت بظلال قاتمة على الفضاء الأوروبي برمتها، أسعفت نزعات انفصالية في الظهور بوازع قومي وخصوصي، لا سيما في غضون وجود أقليات وثقافات وأعراق كانت انصهرت في الدولة الموحدة، خلال فترات الرخاء والازدهار. لكن هل يشكل الاستقلال والانفصال حلاً سحرياً قابلاً للإجابة عن كل الأسئلة؟
المعالجة الديموقراطية لإشكالات من هذا النوع تختلف عن تلك التي يراد تسويقها إلى مناطق خارج الفضاء الأوروبي. حيث النزاعات العرقية والطائفية والمذهبية تشجع التجزئة والتقسيم والبلقنة. ثمة مثال يشد الإسبان إلى الأرض. أقربه أن الظاهرة الانفصالية في الباسك شمال البلاد ووجهت بالرفض، كونها استخدمت السلاح والعنف وصنفت ضمن تنظيمات إرهابية، فيما أن الأمر يختلف بالنسبة لإقليم كاتالونيا. ويبقى السؤال ملحاً هل إن القارة العجوز في طريقها إلى التفكك، أم أن خيار الوحدة الأوروبية سيكون أكبر من الوحدة الوطنية.
(المصدر: الحياة 2014-09-15)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews