الرئيس عباس والهوس بالمبادرة المصرية
الغرام الارتمائي الذي عبر عنه الرئيس عباس بالمبادرة المصرية، وإعلان التمسك بها، وحض الفصائل الفلسطينية على قبولها، يثير الاستغراب ويستدعي أسئلة عديدة، فالمبادرة المصرية الحالية لا تتضمن سوى تعديلات طفيفة على المبادرة الأصلية التي فرحت بها إسرائيل وتمسكت بها، ورفضت في مقابلها أي مبادرات أخرى بما فيها تلك الأمريكية، أي أن المبادرة المصرية ـ وبكل موضوعية ووضوح وهدوءـ حققت لإسرائيل ما لم تحققه الوساطات والمبادرات الأمريكية، على ذلك كيف يمكن أن يقبلها الفلسطينيون و"يتمسكون" بها؟ فهذه المبادرة لا تحقق المطالب الفلسطينية بقدر ما هي مهجوسة بـ"أمن إسرائيل" وكيفية تحقيقه والحرص عليه، وتعيد تدوير الأمور على ما كانت عليه قبل الحرب، وهي إلى ذلك مليئة بالعبارات الغامضة والضبابية والاشتراطية التي تتيح لإسرائيل تفسير بنودها كما تراها، ومن دون أي إلزام.
مثلا. وفي بندها الأول. تؤكد المبادرة على عدم تنفيذ إسرائيل "أي عمليات اجتياح بري لقطاع غزة أو استهداف المدنيين"، معنى ذلك أن إسرائيل مسموح لها أن تستهدف غير المدنيين، وإسرائيل أساسا تقول ليل نهار إنها لا تستهدف مدنيين، وأن الألفي شهيد الذي سقطوا في هذه الحرب سقطوا "عفوا" ومن غير قصد! هذا البند باختصار يتيح لإسرائيل الاستمرار فيما كانت تقوم به دائما، وهو الاغتيالات المتواصلة عن طريق الجو أو الصواريخ. في البند الثاني الذي يلزم فصائل المقاومة هناك إسهاب في تعداد ما هو ممنوع عليها وينص على التالي: "تقوم كافة الفصائل الفلسطينية في غزة بإيقاف جميع الأعمال العدائية من قطاع غزة تجاه إسرائيل برا وبحرا وجوا وبناء الأنفاق خارج حدود القطاع في اتجاه الأراضي الإسرائيلية، مع التأكيد على إيقاف الصواريخ بمختلف أنواعها والهجمات على الحدود أو استهداف المدنيين". لن نتوقف هنا عند وصف "الأعمال العدائية" الذي يصف المقاومة الفلسطينية بما ينقض مقولة الرئيس عباس بأن مصر طرف وليست وسيطا، والواقع أنها فعلا طرف، لكنه ترك لذكائنا استنتاج أين يقف هذا الطرف بالضبط، على كل حال. في البند المذكور أكثر من لغم. لكن يكفي الإشارة إلى الذكر الصريح لحظر "الهجمات على الحدود"، فالمقصود هنا هو الجيش الإسرائيلي لأن وحداته هي التي ترابط على الحدود وتكون معرضة للهجمات، أي أن البند الخاص بإلزام المقاومة ينص بوضوح على وجوب توقفها عن استهداف الجيش الإسرائيلي، بينما البند الخاص بإلزام إسرائيل يطلب منها عدم استهداف المدنيين ويطلق يدها في ملاحقة المقاومين.
البند الثالث يتحدث عن تخفيف الحصار وعبر صيغ اشتراطية تنقض ما قد يبدو وأنه انفراج وفتح ولو جزئي للمعابر، يقول البند ما يلي: "فتح المعابر بين إسرائيل وغزة وبما يحقق إنهاء الحصار وحركة الأفراد والبضائع ومستلزمات إعادة الإعمار وتبادل البضائع بين الضفة الغربية وغزة وبالعكس. طبقا للضوابط التي يتم الاتفاق عليها بين السلطات الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية". هنا تريد مصر أن تبرئ نفسها من المشاركة في الحصار على قطاع غزة عبر إغلاق معبر رفح من خلال إزاحة الحصار على المعابر بين الضفة وغزة فقط، لذلك يحتوي هذا البند على تعبير "وبما يحقق إنهاء الحصار"، حتى يوحي بأن هذا المطلب يتحقق من دون فتح معبر رفح، لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك فحسب، بل حتى فتح المعابر مع الضفة الغربية وبفرض أنها تفك الحصار مرهون بشرط في غاية الغموض هو".. طبقا للضوابط التي يتم الاتفاق عليها بين السلطات الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية". ما هي هذه الضوابط؟ أليست هي ضوابط إسرائيلية في نهاية المطاف؟ وهل تستطيع السلطة الفلسطينية ونحن نعرف قوتها التفاوضية الخارقة أن ترفض أيا من الضوابط الإسرائيلية التي ستفرضها إسرائيل؟ معنى ذلك كله وباختصار أن كل قصة فتح المعابر تعيدها المبادرة المصرية العتيدة إلى سلطة إسرائيل وإرادتها.
في كل بند من بنود المبادرة هناك شرك مقصود أو غير مقصود ويقود إلى تكبيل الفلسطينيين ورهن حياة ما يقارب من مليوني فلسطيني في قطاع غزة بيد إسرائيل، والمبادرة تنفس كل المطالب الفلسطينية إما بالجملة أو التقسيط، ولننظر أخيرا إلى البند التاسع الذي يتحدث عن المطالب الفلسطينية التي تم ترحيلها لمدة شهر أو" ليتم التفاوض عليها لاحقا". يقول البند ما يلي: "عقب استقرار التهدئة وعودة الحياة الطبيعية إلى قطاع غزة يتم استكمال المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين في القاهرة خلال شهر من تاريخ الاتفاق بشأن استكمال موضوعات: أ) تبادل الأسرى والجثامين. ب) بحث أسلوب إنشاء وتشغيل المطار والميناء البحري في غزة طبقا لاتفاقية أوسلو والاتفاقات الموقعة بين الطرفين". لا يحدد البند ولا أحد يعرف معنى "استقرار التهدئة وعودة الحياة الطبيعية إلى قطاع غزة". ماذا لو قالت إسرائيل إن استمرار تسلح المقاومة الفلسطينية هو ضد "الحياة الطبيعية" في قطاع غزة. ثم إن "استقرار التهدئة" قد تخرقه بارودة صياد يتم استخدامها كمبرر للقول بأن التهدئة خرقت، إن تجزئة المطالب وإحالة جزء هام منها إلى المستقبل يعني عمليا إلغاء هذه المطالب، كيف يمكن التفاوض مع إسرائيل بلا سقف زمني ومن دون أي أوراق ضغط وأمامنا التجربة المريرة والمرة لمفاوضات أوسلو منذ عام ١٩٩٣. بل إن المبادرة تفاجئنا بحشر مطلب المطار والميناء الجوي في مفاوضات "طبقا لاتفاقية أوسلو والاتفاقات الموقعة بين الطرفين". هل نقول: صح النوم؟ أين هي اتفاقية أوسلو والاتفاقات الموقعة بين الطرفين والتي دمرها الاستيطان والتهويد والتوسع؟ يبدو أن تلك الاتفاقية لم تعد موجودة إلا في العقل الأمني الذي صاغ المبادرة، وهو عقل كل همه "دور مصر الإقليمي" ولو على حساب مصلحة ومستقبل القضية الفلسطينية وفلسطين برمتها.
الرئيس عباس يخطئ خطأ جسيما ووطنيا في تشبثه بالمبادرة المصرية، وأخطأ مرتين عندما طالب الفصائل بالالتزام بها عبر الإعلام؛ لأنه أضعف الموقف الفلسطيني الموحد في مفاوضات القاهرة، وأخطأ الرئيس عباس مرة أخرى عندما ظل يكرر على أن ما نريده هو وقف القتال، طبعا يريد الفلسطينيون وقف القتال ووقف إراقة دمهم لأنهم من يدفع الثمن الباهظ. لكن لا نحتاج إلى براعة فائقة وتشاطر سياسي كبير للقول بأن هذا التصريح في هذه اللحظة الحساسة يضعف الموقف الفلسطيني أيضا، فما يريده الفلسطينيون الآن وعلى طاولة المفاوضات هو رفع الحصار وضمان حياة كريمة لمليوني فلسطيني في القطاع، حتى لا تظل دماؤهم وحياتهم تراق ولكن ببطء وبعيدا عن أعين الكاميرات، إسرائيل أيضاً تريد وقف القتال وهي لا تحب أن ترى صورتها ملطخة بالدم الفلسطيني في عيون الرأي العام العالمي، وتريد أن تعود لسياسة القتل البطيء عبر الحصار الذي لا ينتبه له الإعلام، التباكي على الدماء الفلسطينية في الوقت الخطأ وعبر المنبر الخطأ، وكما نراه متكررا عند أساطين العجز العربي، هو كلمة حق الدم يراد بها باطل الرضوخ.
(المصدر: الشرق 2014-08-18)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews