طرد الاحتلال إمكانية واقعية
في نهاية إبريل/ نيسان الماضي بلغت أزمة الخيار التفاوضي مع العدو الصهيوني منتهاها، وأيقنت قيادة "فتح" بأن حكومة الاحتلال، برعاية أمريكية، تبغي فرض شروطها الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية باسم تسويتها . وبموازاة ذلك، وعلى وقع بلوغ أزمة جماعة الإخوان المسلمين ذروتها، جراء تعرض مركزها في مصر، وفروعها في أغلبية الدول العربية، لحالة غير مسبوقة من العزل الشعبي والرسمي، أيقنت قيادة "حماس"، فرع الجماعة في فلسطين، بأن من شبه المستحيل تقريباً استمرار تفردها في إدارة قطاع غزة المحاصر . هنا، وعوض أن تبادر قيادتا "فتح" و"حماس"، كطرفين للانقسام الداخلي، إلى البحث في جوهر أزمتيهما، اللتين تحولتا إلى مأزق وطني فلسطيني مستعص متعدد الأوجه والأبعاد، يحتاج الخروج منه إلى إجراء مراجعة سياسية شاملة تشارك فيها بجدية أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية كافة، اكتفت قيادتا الحركتين بخطوة تشكيل حكومة توافق وطني، اتسمت، على أهميتها، بالشكلية، والافتقاد إلى برنامج سياسي موحد يحميها من التراجع، ويمدها بدعم شعبي واسع يسلحها بعوامل القوة اللازمة لمواجهة هجوم حكومة الاحتلال الهستيري عليها، ويحولها إلى خطوة جادة على طريق إعادة بناء وتوحيد وتفعيل و"دمقرطة" الإطار الوطني الجامع، منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات . بل ويوفر للقضية الفلسطينية كل عوامل الحماية من تدخلات المحاور الإقليمية واستخداماتها، بما يعيدها إلى ما كانت عليه حتى وقوع الانقسام الداخلي المدمر، وإلى ما يجب أن تبقى عليه، بوصفها قضية العرب المركزية، وأعدل قضايا العالم، والقضية التي تُوظف ولا تُوظف .
لكن، ورغم ما انطوى عليه اختزال قيادتي "فتح" و"حماس" مقتضيات إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة في خطوة تشكيل حكومة توافق وطني ل"السلطة الفلسطينية" المحدودة والمقيدة في الضفة وغزة، ورغم حيازة هذه الحكومة اعترافاً أوروبياً بشرط عدم خروجها على تعاقد أوسلو سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ورغم إعلان الولايات المتحدة نيتها التعامل معها بالشروط الأوروبية ذاتها، ورغم تأكيدات الرئيس الفلسطيني أن برنامج الحكومة هو برنامجه، ورغم إعلان قيادة "حماس" تخويلها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بإدارة المفاوضات، إلا أن حكومة المستوطنين الصهيونية بقيادة نتنياهو لم تستوعب مجرد الحديث عن إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي، حيث شنت حملة سياسية ودبلوماسية وإعلامية هستيرية ممنهجة ضد هذه الحكومة، وأعلنت تعليق المفاوضات المتوقفة أصلاً مع قيادة منظمة
التحرير، وهددت السلطة الفلسطينية ورئيسها، بالخنق المالي، وتخفيض مستويات التعامل والتنسيق، باستثناء "التنسيق الأمني" .
وأكثر، فقد استغلت حكومة العدو حادثة اختفاء ومقتل ثلاثة مستوطنين، لشن حرب إبادة ومجازر بربرية مبيتة، في صلب أهدافها إجهاض المقدمات المتعثرة لإنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي، بدأتها في 13 يونيو/ حزيران الماضي بحملة استباحة شاملة طالت مدن وقرى ومخيمات الضفة كافة، وإمطار قطاع غزة من بيت حانون شمالاً إلى رفح جنوباً بعشرات آلاف القذائف من الجو والبحر والبر، وصولاً إلى توسيع هذه الحرب في 17 يوليو/ تموز الماضي بهجوم بري محسوب، ما أفضى إلى اعتقال وجرح المئات واستشهاد العشرات في الضفة، وإلى استشهاد نحو ،2000 وجرح عشرة آلاف، جلهم من الأطفال والنساء والمسنين، علاوة على تدمير كامل البنية التحتية وأكثر من عشرة آلاف منزل، وتشريد قرابة نصف مليون مواطن، في قطاع غزة .
ومن فرط فظاعة ما ارتكبه الصهاينة في حربهم القائمة من مجازر، فإن ذرائعهم لم تنطل على الشعب الفلسطيني الذي يدرك بوطنيته الراسخة، وتوقه الجارف لاستعادة خيار الوحدة والمقاومة، وذاكرته الجمعية المثقلة بجرائم الصهاينة ومجازرهم ومذابحهم وتطهيرهم العرقي المخطط على مدار قرن، أن هذه الحرب إنما تستهدف، أساساً، إجهاض مقدمات إنهاء الانقسام الفلسطيني المدمر، وضرب المقاومة الفلسطينية، بنية وثقافة وأياً كانت مشاربها الفكرية والسياسية، بما يخدم تكريس الاحتلال، وتحسين شروط استكمال تنفيذ مخطط سلخ القدس وتهويدها، واستيطان الضفة وتمزيقها وفصلها عن قطاع غزة، على طريق تصفية القضية الفلسطينية، بعدما تعذر تمرير ذلك بالمفاوضات برعاية أمريكية . بإيجاز أدرك شعب فلسطين أن هذه الحرب لا تستهدف ضرب فصيل فلسطيني بعينه لمصلحة تقوية غيره من الفصائل، كما يروج ويشيع قادة العدو وحلفاؤهم بقيادة أمريكية .
وكان لافتاً أن قادة العدو ما زالوا يروجون كذبة أن حربهم الهمجية تستهدف فصائل فلسطينية بعينها، ذلك رغم تشكيل وفد فلسطيني موحد بمطالب موحدة لإدارة معركة المفاوضات القاسية والمعقدة في القاهرة، بل ورغم التفاف الشعب الفلسطيني بمشاربه الفكرية والسياسية حول مقاومته التي قاتلت ببسالة، وسطرت ملحمة بطولية منقطعة النظير، وأظهرت روحاً قتالية عالية، وقدمت مفاجآت نوعية، أربكت حسابات العدو وكبدته خسائر بشرية واقتصادية ومعنوية وأخلاقية، ما أفشل أهداف حربه الهمجية، وأولها إجهاض مقدمات استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي تحولت في معمعان شهر ويزيد من المواجهة القاسية والمكلفة إلى وحدة ميدانية وسياسية ومجتمعية واقعية غير مسبوقة منذ وقوع الانقسام الداخلي في العام 2007 . ولعل إنجاز هذه الوحدة حول خيار المقاومة بالمعنى الشامل للكلمة هو الإنجاز الأهم لهذه المحطة البطولية من المواجهة المفتوحة مع العدو الصهيوني الذي لم يستطع قادته إخفاء أن ضرب مقدمات إنهاء الانقسام، يشكل واحداً من أهم أهداف حربهم البربرية، ما يوجب على القيادات الفلسطينية بمشاربها المختلفة تطوير ما حققه شعبها بدمه من وحدة إلى خيار سياسي وطني مقاوم، ثبت أنه وحده القادر على صنع الإنجازات الوطنية وصولاً إلى طرد الاحتلال من الضفة والقدس وقطاع غزة، كمهمة وطنية مباشرة، نعتقد أن تحقيقها بلا شرط أو قيد، وبما لا يغلق باب مواصلة النضال لتحقيق باقي مهمات المشروع الوطني الفلسطيني، أصبح إمكانية واقعية . ولعل هذا هو أهم درس يمكن استخلاصه من النتائج الميدانية لحرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة .
(المصدر: الخليج 2014-08-17)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews