الحكومة الفلسطينية الجديدة وتجارب الحكومات السابقة
تقدَّم الحكومة الفلسطينية الجديدة، التي يجري العمل على تشكيلها، بكونها حكومة توافق وطني، وكثمرة من ثمار اتفاق المصالحة بين حركتي "فتح" و"حماس"، ويعوَّل عليها في الخطاب الإعلامي للحركتين أن تكون أحد مرتكزات استعادة الوحدة والوطنية وتجسيدا عمليا لها من خلال المهام الملقاة على كاهلها، رغم تجارب فشل كل الحكومات السابقة للسلطة في امتلاك حيثية وطنية جامعة.
تحتل مهمة تشكيل حكومة توافق وطني سلم الأولويات في اتفاق المصالحة بين حركتي "فتح" و"حماس"، الذي تم التوقيع عليه مؤخرا في غزة، وذلك لارتباط التشكيل بالخطوات العملية لتنفيذ الاتفاق، من إعادة إدماج لمؤسسات وأجهزة السلطة في قطاع غزة والضفة وتوحيدها، وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية، وحل المسائل العالقة والمستجدة منذ الانقسام السياسي والكياني الكبير عام 2007.
كما أنه من المفترض أن تنجز في ظل هذه الحكومة العتيدة الانتخابات الرئاسية والتشريعية للسلطة، جنبا إلى جنب مع انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير.
وبات من شبه المؤكد أن التشكيلة ستكون شبه محصورة بين قطبي الانقسام واتفاق المصالحة الأخير، حركتي "فتح" و"حماس"، في محاصصة ثنائية تحت ضغط من قيادات فتحاوية وحمساوية، ولعل هذا في جانب منه دفع الطرفين في حوارات غزة إلى التوجه نحو تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال رامي الحمد الله برئاسة الحكومة القادمة، علما بأن نص الاتفاق الأساسي كان يتضمن تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة رئيس السلطة محمود عباس.
بداية حذَّرت منها فصائل في منظمة التحرير باعتبارها خطوة غير موفقة، وتحمل في طياتها عوامل انفجار وتعطيل، ولا سيما في ظل المهام التي ستلقى على كاهلها، ومجاهيل برنامجها خاصة في الشق السياسي، بينما ما زالت الفجوة في المواقف السياسية بين "فتح" و"حماس" واسعة.
حكومات السلطة
تجدر الإشارة إلى أن حكومات السلطة الفلسطينية لم تكن صاحبة صلاحيات سياسية معتبرة منذ تأسيس السلطة، حيث بقيت الملفات السياسية والتفاوضية في يد الرئيس الراحل ياسر عرفات، رئيس السلطة ورئيس حكوماتها المتعاقبة حتى العام 2003، ودائرة محدودة من النافذين، ولم يتغير الوضع عندما استحدث منصب رئيس الوزراء تحت ضغوط أميركية وإسرائيلية وأوروبية غربية، كان هدفها تقليص صلاحيات عرفات، وتحجيم ثقله السياسي الكاسح.
لكن عرفات بقي حتى اللحظة الأخيرة الرقم الصعب في المعادلة القيادية لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وأدى ذلك إلى استقالة عباس حينها من منصبة كأول رئيس وزراء في السلطة بعد الفصل بين منصبي رئاسة السلطة ورئاسة الوزراء، حيث لم يستمر عباس في منصبه أكثر من 130 يوما فقط، وجهت له خلالها انتقادات سياسية لاذعة.
الصورة تكررت في عهد رئاسة عباس للسلطة، وكانت تجربة أول انتخابات تشريعية تعددية شاركت فيها حركة "حماس"، يناير/كانون الثاني 2006 منعطفا كبيرا في تركيبة السلطة، بفوز "حماس" بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وتشكيلها لأول حكومة للسلطة برئاسة شخصية من خارج حركة "فتح"، إسماعيل هنية، قبل أن تتحول العلاقة بين الحركتين إلى صراع تناحري على السلطة.
وقد وصل هذا الصراع ذروته في يونيو/حزيران 2007 بسيطرة "حماس" على قطاع غزة، وتكريس سابقة الانقسام السياسي والكياني، الذي فجرت شرارته كما جاء في رسالة أرسلها هنية إلى عباس تسليح قوات الحرس الرئاسي بكميات ضخمة، و"تشكيل قوات خاصة من الأمن الوطني تقدر بالآلاف، لمواجهة الحكومة الفلسطينية والقوة التنفيذية واعتماد "مقر أنصار في غزة" مقرا مركزيا لها".
رئاسة السلطة وحركة "فتح" نفت حينها اتهامات حكومة هنية وحركة "حماس"، واتهمتها في المقابل بأنها تريد فرض سطوتها على الأجهزة الأمنية، في صالح مشروعها الخاص للاستحواذ على مؤسسات السلطة، انطلاقا من قطاع غزة كمرحلة أولى، ومن ثم مدها تدريجيا إلى الضفة الفلسطينية.
وكانت حكومة هنية قد اشتكت من سلب الصلاحيات الأمنية منها، والمتعلقة بإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية للسلطة وفقا لاتفاق "القاهرة"، الذي جرى التأكيد عليه في اتفاق "مكة المكرمة"، وثمة خشية كبيرة من أن يتحول هذا الملف مجددا إلى لغم قد ينفجر في وجه الحكومة القادمة.
للمفارقة استندت "حماس" حينذاك إلى أن أحد الأسس التعديلات في النظام الأساسي للسلطة عام 2003، التي قام عليها مبدأ الفصل بين منصبي رئاسة السلطة ورئاسة الوزراء، قضى بإعطاء رئيس الوزراء الصلاحيات الأوسع في الإشراف على الأجهزة الأمنية، وحصر الموازنات والشؤون المالية بوزير المالية، وشغل المنصب وقتها سلام فياض.
ملفات عالقة
من اللافت أن موسى أبو مرزوق، عضو المكتب السياسي في حركة "حماس"، أبقى الباب مواربا أمام حصول الحكومة الجديدة على مصادقة المجلس التشريعي، إذ لم يعط أبو مرزوق جوابا حاسما على هذه المسألة، رغم اتفاق غزة مع حركة "فتح"، بل وضع ذلك في سياق عدم استبعاد احتمال عدم حصولها على المصادقة، وذلك في مقابلة مع قناة "الجزيرة" ضمن برنامج "لقاء اليوم" بتاريخ 23/5/2014، وعزا هذا ضمنيا إلى استمرار وجود خلافات سياسية.
كما لم يعط أبو مرزوق جوابا واضحا على سؤال حول مهمة توحيد الأجهزة الأمنية، واكتفى بالتأكيد على أنه ستشكل لجنة ستعنى بالأمر. وانتقد في شكل مبطن تأخر دعوة لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير، التي نص عليها "إعلان القاهرة" مارس/آذار 2005، وجرى التأكيد عليها في الاتفاقات اللاحقة.
ثلاثة عناوين رئيسية تختصر أهم القضايا والملفات التي بقيت عالقة في اتفاق غزة للمصالحة، مما يضع علامات شك إزاء فرص نجاح الحكومة القادمة في الاضطلاع بدورها ومهامها المفترضة، وفي حال لم توضع حلول مبدئية لها ستعيد الأوضاع إلى نقطة خلافات استعصت في الماضي.
يضاف إلى ما سبق ثقل المهمات الأخرى التي ستواجهها الحكومة الجديدة، من معالجة الأزمات المالية والاقتصادية المستعصية وانعكاساتها الاجتماعية، ونجاحها فيها سيرتبط بمدى قدرتها على اشتقاق وتنفيذ برنامج إصلاح شامل، يخلص إدارات السلطة من الفساد ومن الاتفاقيات والقيود الاقتصادية الجائرة، وتنمية ودعم صمود الاقتصاد والمجتمع المحلي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
ومن المعوقات التي ستنتصب أمام الحكومة الجديدة الأخطاء الكبيرة التي تراكمت خلال ما يقارب عشرين عاما من عمر السلطة الفلسطينية، في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
أخطاء آلت بالسلطة إلى ربط مصيرها ومصادر تمويل موازنتها بقنوات دعم الدول والجهات المانحة والتحويلات المالية الإسرائيلية للضرائب المستحقة للسلطة، تُفتح أو تتقلص أو تغلق للضغط على القيادة الفلسطينية وإملاء خطوات سياسية عليها، أحجمت أو عجزت كل حكومات السلطة عن معالجتها، ببرامج جذرية تمتلك رؤية إستراتيجية تنطلق مما هو مطلوب فعلا.
ولن تنجح الحكومة الجديدة في تحقيق ما فشلت به الحكومات السابقة في المجال الاقتصادي، إلا بالتخلص من قيود "بروتوكول باريس الاقتصادي"، وما كرسه من دمج وإلحاق اقتصادي كانت تمارسه إسرائيل بفعل الأمر الواقع.
الحكومة الجديدة
قبل رئيس الحكومة الحالية والمكلف بتشكيل الحكومة الجديدة، رامي الحمد الله، تولت خمسة شخصيات فقط رئاسة الحكومات الفلسطينية، أولها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات خمس حكومات من سبتمبر/أيلول 1994حتى أبريل/نيسان 2003، جمع فيها بين رئاسة الحكومة ورئاسة السلطة، وحكومة واحدة برئاسة محمود عباس لم تعمر أكثر من 130 يوما، تشكلت في 29 أبريل/نيسان 2003 وقدمت استقالتها في 6 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، وثلاث حكومات برئاسة أحمد قريع، من أكتوبر/تشرين الأول 2003 حتى مارس/آذار 2006، وحكومتان برئاسة إسماعيل هنية، من مايو/أيار 2006 إلى مايو/أيار 2007، الثانية كانت حكومة وحدة وطنية. وثلاث حكومات برئاسة سلام فياض، من مايو/أيار 2007 إلى أبريل/نيسان 2013. وتولى بعدها رامي الحمد الله رئاسة حكومتين.
المحطات الست للحكومات عكست مسار تطور السلطة الفلسطينية، وتبدل قواعد اللعبة في العلاقات الداخلية بعد أن باتت محكومة بموازين مختلفة، وحالة السيولة السياسية التي يعيشها الوضع الفلسطيني، بالإضافة إلى مسلسل فضائح فساد مالي وإداري وإهدار المال العام، طالت عددا كبيرا من الوزراء في الحكومات المتعاقبة.
ويعاب على الحكومات الفلسطينية أنها بقيت تعاني من بطالة سياسية، وحالة شلل وعجز عن اطلاعها كما ينبغي بإدارة شؤون السلطة وأوضاعها، ولعبت الرؤى المتباينة لتكتيك إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي دورا كبيرا في فشل تلك الحكومات في اعتماد سياسة وطنية جامعة بأفق برنامج مشترك، والافتقار إلى أجندة واضحة في هذا المضمار، ما حولَّها إلى مرآة للوضع الفلسطيني المنقسم على نفسه، والموزع على خطوط سياسية وتكتيكية متصارعة، فاقمت حصيلتها أزمات النظام السياسي الفلسطيني ككل.
ولم تمتلك الحكومات الفلسطينية برنامجا للإصلاح المالي والإداري، باستثناء حكومات سلام فياض التي أقدمت على عدد من الإجراءات واجهت انتقادات من قوى وفصائل معارضة. وعانت كل الحكومات من تعثر في الأداء، فازداد الوضع الاقتصادي تدهورا، واتسعت حالة الفقر، وارتفعت نسب البطالة.
كما شابت علاقات الحكومات والرئاسة الفلسطينية علاقات متوترة مع المجلس التشريعي، في ظل مرحلة اللون الفتحاوي الواحد للحكومات والمجلس التشريعي، حتى الحكومة التاسعة التي استقالت في مارس/آذار 2005، وتعاظمت الخلافات بين السلطات الثلاث بانتزاع حركة "حماس" أغلبية مقاعد التشريعي.
ويعود ذلك بالأساس إلى طبيعة النظام السياسي الفلسطيني، الذي يتمتع فيه رئيس السلطة بصلاحيات تصادر الكثير من صلاحيات رئيس الحكومة، وكذلك صلاحيات المجلس التشريعي.
وعبّر فشل الحكومات الفلسطينية المتعاقبة عن أزمة النظام السياسي الفلسطيني في النزاعات بين رئيس السلطة ورئيس السلطة، النابعة من هيمنة الدور الفردي، وتجلى فشل الحكومات في إخفاقها بترسيخ دور المؤسسة بديلا لدور الفرد، مما أعاق بناء اقتصاد وطني والقضاء على مظاهر الفساد والتسيب، ناهيك عن عجزها في إدارة الشأن السياسي.
ولا تبدو حظوظ الحكومة الجديدة كبيرة في النجاح بخلق واقع جديد، فهي لن تضم ائتلافا سياسيا فاعلا، أو رؤية سياسية مشتركة بين أطرافها، تمكنها من وضع أجندة لتنمية الحياة السياسية وإدخال إصلاحات جذرية على النظام السياسي الفلسطيني.
إنها جزء من إعادة إنتاج الأزمة بين حركتي "فتح" و"حماس"، وبين مكونات النظام السياسي والحركة الوطنية الفلسطينية، وهي حتما لن تُمنح الاستقرار الكافي لوضع برامج عمل طموح، إلى أن يثبت العكس.
(المصدر: الجزيرة 2014-06-02)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews