عندما يستخف الإعلام بعقول الناس !
العالم من حولنا يعج بالأحداث الكفيلة بجعل القنوات الإخبارية التلفزيونية - للمثال فقط - تبث على مدار الساعة كل جديد وحصري .
لقد أصبح العالم وأصبحنا - كبشر - مادة دسمة لهذه القنوات تحقق من خلالنا أرباحها واستمراريتها.
وأي مطلع على ماذا يعني الاعلام والغاية منه وكيف يُدرس في الجامعات والمعاهد المختصة، يعرف بالتأكيد أن الاعلام هو رسالة لنقل الخبر وإيصال الحقيقة ، إلا أن هذا التعريف فقد قيمته في أيامنا هذه عندما تحول الاعلام من وسيلة لنقل الحقيقة إلى" تجارة " الهدف منها الحصري و سرعة البث من أجل جذب أكبر كم من الجمهور ولو كان ذلك على حساب أخلاقيات المهنة ، والأهم الأخلاق والمبادئ الإنسانية.
لقد بات خبرٌ يستهل بكلمات : استشهد أو قتل أو فجر أو اغتال أو دمر ، أو بمصادر اللغة من مثل تفجير وتدمير واستشهاد واعتقال إلخ .. هو خبرا مثيرا تتهافت عليه القنوات الإخبارية التلفزيونية ، ليس بغرض عرض الخبر فقط وإنما بهدف إيصال رسالة للمشاهد العربي والغربي بأننا سباقون في تقديم وعرض الحدث في لحظته دون الاهتمام بالتقصي والبحث للكشف عن المعطيات والأهداف والحقائق، ليصبح أي كلام يُقال بخصوص الحدث الآني مصدرا ووثيقة ثم خبرا يتم التعاطي معه كحقيقة واقعة.
أصبحت الحقيقة الإعلامية اليوم ليست في الكشف عن الخبر وإنما في تحقيق (الريتينغ) أو نسبة المشاهدة الأكبر، في جذب المعلنين والربح المادي بغض النظر عن مدى خطورة ودقة وحساسية المعلومة المقدمة عبر شاشات هذه المحطات التلفزيونية.
لقد أصبح الاعلامي اليوم يقول " أي كلام " دون رقيب أو حسيب إلا بما يخدم مصلحة المحطة التي يعمل بها وأهدافها وتوجهاتها السياسية.
لم يعد هناك مراعاة للخطاب الاعلامي الذي تتبناه هذه المحطات ، ولم يعد هناك احترام للجمهور الذي تتوجه إليه بخطابها وتدليسها أحيانا .
ولعلَّ هذا التدهور في شكل وبنية الخطاب الاعلامي أكثر ما يتجلى في الاعلام المصري الحالي مع أسماء كبار الاعلاميين المصريين أصحاب التواريخ الطويلة العريضة في مجال الصحافة والاعلام .
فالمتابع للمحطات التلفزيونية المصرية يكاد يُصاب بالسكتة الدماغية من شكل وأسلوب هذا الخطاب والمادة التي يطرحها وكيفية تقديمها ، وخاصة إلى جمهوره المحلي.
فمن تعظيم وتآليه لشخصية الزعيم ، وهو هنا " السيسي " والذي تجاوز مديحه والثناء عليه كل الحدود الدنيا والقصوى ، وأخرج اللبيب الحليم عن طوره ، إلى الاعلان الذي تحدثت عنه أعلى وأقوى هيئة في مصر وهي القوات المسلحة ، والمقصود هنا ذلك الجهاز الطبي الخارق الماحق ، والذي يعمل بطريقة الرادار : حيث يكشف عن المرضى المصابين بفيروس سي والإيدز ويعالجهما، بالإضافة إلى أمراض أخرى كالسكري والصدفية وحتى السرطان .
إن طريقة الطرح والعرض لهذا الاختراع من قبل القنوات المصرية التلفزيونية ومن قبل أهم نجوم الإعلام المصري، وحتى من قبل الضيوف والأطباء والباحثين والمختصين، والترويج له بهذا الشكل هو ضحك واستخفاف واستغلال لعقول المشاهد المصري والعربي ، وهو بمثابة جريمة يجب أن يُعاقب عليها مرتكبوها والمشاركون فيها ولو بالقول .
لقد طرح الاعلامي باسم يوسف في برنامجه الأخير هذا الموضوع ووعد الاعلاميين المصريين وكل من شارك في هذه الجريمة الاعلامية بأنه طالما بقي في موقعه سيُذكّر الجمهور بدور بعض وسائل الاعلام المصري وبترويجها لمنتج غير حقيقي.. وخاطب زملاءه قائلا : " إذا كنتم تراهنون على أن هذا الشعب الطيب سينسى فأنا سأبقى هنا فقط من أجل أن أذكرهم " .
اذا كان الاعلام العربي يراهن على جمهوره المتُعَب المنهك بفعل الحروب والقتل والموت والتشرد، وبفعل غلاء المعيشة وصعوبات الحياة والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ..
واذا كان يراهن على أن الشعب العربي سينسى يوماً دور بعض وسائل الاعلام في انكساره وانهيار آماله وأحلامه وضياع مستقبله ومستقبل أبنائه.. فليعلم بأن هناك أشرافا ومخلصين حملوا الرسالة الاعلامية على أكتافهم وأمنوا بها وأقسموا إلا أن يقولوا الحقيقة أيا كانت النتائج ومهما كان الثمن .
د . فطين البداد
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews