هل تدعم تركيا إقليما سنيا في العراق؟

جي بي سي نيوز:- كُتب الدستور العراقي الحالي في عهد بول بريمر الذي عيّنه الاحتلال الأمريكي كحاكم مدني على العراق بعد سقوط النظام العراقي عام 2003، وجرى الاستفتاء عليه عام 2005 ليتم العمل به حتى وقتنا هذا، وفي هذا الدستور وضعت مادة تنظم عملية تشكيل الأقاليم، وتعطي الحق لأي محافظة أو عدد من المحافظات بتشكيل إقليم، وتم إصدار قانون بذلك سنة 2008، يقضي في حالة إذا ما قدم ثلثا الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات المشكّلة بموجب الدستور التي تروم تكوين الإقليم، أو طلب مقدّم من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم. ثم يتم الاستفتاء عليه وإذا حصل على أكثر أصوات الناخبين المشاركين في الاستبيان، يتم تشكيله.

الشيعة والأكراد وتشكيل الأقاليم
وكان أشدّ الذين دافعوا لإقرار تلك المادة الدستورية هم الأكراد والشيعة العرب، ذلك لأن الأكراد كانوا يعتبرون موضوع الإقليم هو الخطوة الأولى لإعلان استقلالهم عن العراق حين يأتي الوقت المناسب لذلك، أما الشيعة العرب فلأنهم كانوا خائفين من إعادة إنتاج الحكم البعثي مرة أخرى، فتكون تلك المادة الدستورية ضامنا لهم من تدخلات حكومة المركز، ومخرجا لهم إذا ما فكروا بالاستقلال بدولة تضم طائفتهم في حال استحالة العيش في عراق موحد. وكان العرب السنّة هم من أشد الرافضين لتلك المادة الدستورية لاعتبارها تمهيدا لتقسيم العراق لدويلات صغيرة.

إيران استفادت من تخبط الاحتلال
إلا أن التخبط الذي قام به الاحتلال في العراق وفشله بإدارة البلد في الفترة التي تلت دخوله وغياب الحضور العربي فيه، وفّر فرصة مناسبة جدا لإيران لتزيد حضورها في العراق من خلال الحكومة التي سيطرت عليها الأحزاب الشيعية الموالية لها، كما عقدت تلك الأحزاب الاتفاقيات الاستراتيجية مع الأكراد على حساب العرب السنّة. بينما فضّل العرب السنّة في غالبيتهم التمرد على الأوضاع التي استجدّت بعد عام 2003.

مطالب السنَّة بإقليم لهم
ومع مرور الوقت وفشل خيار المقاومة المسلحة بتغير الأوضاع السياسية في البلد، بسبب محدودية الدعم الدولي والعربي لها، تم توجيه ضربة كبيرة للسنّة العرب ولمشروعهم الوحدوي الذي كانوا ينادون به. الأمر الذي جعل النخبة السياسية والعشائرية السنَّية تحاول الاستفادة من الفسحة التي منحها الدستور، للمطالبة بتشكيل إقليم سنَّي يضم كل المحافظات ذات الغالبية السنَّية، ليحافظوا على ما تبقى من أرضهم ودينهم وثقافتهم من عمليات التغيير الديموغرافي والعقائدي التي تنتهجها الحكومة الطائفية في بغداد. فبدأت الاعتصامات التي شهدتها الحواضر السنَّية سنة 2013 واستمرت لأكثر من سنة، ولم تستجب الحكومة لأي من مطالب السنّة بالرغم من إنها كانت متوافقة مع الدستور الجديد. وبسبب افتقار تلك الاعتصامات إلى التأييد الدولي والعربي، استغل الفرصة رئيس الوزراء العراقي حينها “نوري المالكي”، وقام بفض الاعتصامات بالقوة، الأمر الذي تسبب بسقوط عشرات القتلى في ساحات الاعتصام.

بعدها استغل تنظيم داعش حالة الفوضى التي حدثت، وبتسهيل من القوات الحكومية، قام بالسيطرة على عدة مدن من محافظة الأنبار، وبعدها قامت داعش وبتسهيل من القوات الحكومية أيضا بالسيطرة على مدينة الموصل وأجزاء واسعة من محافظتي صلاح الدين وديالى، لتتبخر بعدها كل مطالب السنّة التي نادوا بها، ولتتحول أرضهم إلى ساحة حرب بين داعش وبين القوات الحكومية وميليشياتها.

عانى السنّة خلال أكثر من سنتين من احتلال داعش، وبعدها من الانتهاكات الجسيمة للمليشيات الشيعية التي احتلت أرضهم بحجة تحريرها من تنظيم داعش، ووجد السنّة أنفسهم بين نازح ومهجر بعيدين عن مدنهم وأرضهم يعانون الأمرين، ويصبح تأثيرهم صفرا في المعادلة السياسية العراقية.

إقليم السنَّة لا راعي دولي له
بعد أن فقد العرب السنّة كل السبل التي تمكّنهم من العيش المشترك في عراق موحد، طرح الكثير من المفكرين والسياسيين فكرة تشكيل الإقليم السنَّي مرة أخرى، ولكن وسط رفض حكومي أشد هذه المرة، ليقينها من قدرتها على السيطرة على كامل التراب العراقي بالاستناد على الدعم الإيراني، على عكس الحال بالنسبة للعرب السنّة. فالحكومة الطائفية ببغداد لم تعد تواجه خصما عنيدا مثل السابق متمثلاً بالعرب السنّة، بعد أن وصل بهم الحال إلى ما هم عليه الآن، كما لم يساند مطالب السنّة بتشكيل إقليم خاص بهم أية دولة عربية ولا حتى تركيا، فتركيا تنأى بنفسها عن التدخل بشؤون العراق الداخلية وتعتبره شأنا لا يمت بصلة لمصالحها الجوهرية في العراق، فهي ترتبط بعلاقات تجارية مع العراق وصلت إلى ما قيمته 12 مليار دولار في فترة ما، ناهيك عن العلاقات الاقتصادية الضخمة مع إقليم كردستان.

الانعطافة الكبيرة في السياسة الخارجية التركية
إلا أن هذا الوضع تغير كثيرا بالنسبة لتركيا بعد أن سيطرت داعش على الموصل وأسر أعضاء القنصلية التركية المتواجدة فيها. مما جعل ناقوس الخطر يدق عند الأتراك من مشكلة حقيقية بدأت تقترب من حدودهم. وعلى إثر ذلك قامت بإرسال قوة محدودة من جيشها لتستقر في منطقة “بعشيقة” بالقرب من الموصل. ومع تطور الأمور في سوريا أصبحت داعش جارة لتركيا بعد استيلائها على المناطق الحدودية، ومع ازدياد نفوذ أكراد سوريا المرتبطين بحزب العمال الكردستاني التركي، وطموحهم بتشكيل دولة كردية خاصة بهم شمال سوريا. وجدت تركيا نفسها محاطة بقوس من الأعداء يحاول أن يعزلها عن محيطها، بل ويحاول تصدير الفوضى إلى الداخل التركي. فقامت بعملية درع الفرات في سوريا لتجنب المخاطر القادمة من هناك، وكانت لها نية مماثلة لتكرار تلك العملية في الموصل، إلا أنها جوبهت برفض عراقي كبير وبدوافع إيرانية.

تركيا لا تدعم إقليما سنَّيا في الوقت الحالي
تعتبر الساحة العراقية من الساحات الأكثر صعوبة للأتراك، حيث لا تمتلك تركيا في العراق من أدوات لتناور بها سوى القوة الصغيرة بقيادة أثيل النجيفي. ومن غير المرجح أن تفكر تركيا حاليا في دعم مشروع إقليم سنَّي يضم كل السنّة العراقيين، ذلك لأن الموضوع العراقي أصبح أكبر من أن تتعامل معه تركيا لوحدها، فالحالة في العراق تمسك بخيوطها الآن أمريكا بالاتفاق مع إيران، وتركيا لن تجد لنفسها دورا تلعبه في العراق. وعلى الرغم من أن تركيا تمتلك اتفاقات دولية قديمة تعطيها الحق بالتدخل لحماية المكون التركماني في الموصل، ومن الممكن أن تساعدها تلك الاتفاقيات في التدخل وبشكل محدود في الموصل، تحول دون حدوث مجزرة طائفية مرتقبة بالموصل على أيدي المليشيات من خلال تكثيفها للضغط السياسي والدبلوماسي على حكومة العبادي وأيضا من خلال القوة الصغيرة المرابطة بشمال العراق. أما أكثر من ذلك فإننا نشك في ذلك. فتركيا لن تستطيع التوغل كثيرا في الشأن العراقي، نظرا لصعوبة ديمومة العمل فيه بسبب الفيتو الأمريكي والإيراني، إضافة إلى تكلفته الكبيرة على اقتصاد تركيا. كما أن تركيا لا تستطيع أن تركن على الدعم الخليجي لها في هذا الموضوع، فالخليجيون حلفاء غير مضمونين.

حلم بعيد المنال
حلم السنّة العرب في تشكيل إقليم سنّي لهم في المحافظات السنَّية، أصبح الآن حلما بعيد المنال، إلا إذا حدثت تغيرات دولية مهمة وكبيرة تتغير خلالها كل التوازنات في الدول الإقليمية المجاورة للعراق، وعلى رأسها التغيير الممكن حدوثه في إيران وهو غير مرجح حاليا، أو أن تسفر الحرب في سوريا عن مفاجئات تغيّر موازين القوى. فمصير السنّة الآن ووفق المعطيات الحالية، مرتبط بشكل كبير بإرادات الدول الكبرى والمشاريع التي تجري في المنطقة.

فرصة ممكنة
ولكن يمكن للسنة استغلال المحرك الذي يحرك تلك الدول، وهو مصالحها، فإذا وجدت أمريكا مثلا أن من مصلحتها التواجد في الأرض التي يشغلها السنّة حاليا فمن الممكن أن تعمل أمريكا على تشكيل إقليم سني لهم وتتولى هي حمايته من المخاطر الخارجية التي تحيط به لتعزيز تواجدها العسكري فيه. فتتوزع الآن أكثر من قاعدة أمريكية في محافظة الأنبار وكذلك الموصل، وبالتالي فإن أمريكا من الممكن أن تعمل على تشكيل إقليم يضم كلتا المحافظتين لحماية قواعدها، أما بالنسبة لديالى وصلاح الدين فإن أمريكا لا تجد فيهما أية مصلحة جوهرية يمكنها الاستفادة منها لتعطيهم إقليما خاصا بهم أو تضمهم للإقليم الذي من الممكن أن تفكر بإنشائه في الأنبار والموصل. فالواجب الآن على السياسيين السنة، العمل على إقناع اللاعبين الكبار، بأن من مصلحتهم إقامة إقليم سنَّي يضم كل السنَّة وحمايته من الاعتداءات الخارجية، فإذا ما تم ذلك، يفكر بعدها السنَّة بالسبل الأخرى فالمشوار طويل ولكل حادث حديث.

تركيا بوست