في ذكرى سقوط بغداد
هل يمكن أن يجادل أحد أو ينكر أن الدول العربية تمر بفترة سيئة، إن لم تكن الأسوأ في تاريخها؟ كل الأيادي الأجنبية تعبث في القلب العربي، بينما العرب عاجزون عن حل مشكلاتهم، فلجأ بعضهم إلى دول أخرى، أو تنظيمات دولية، أو جهات خارجية، كي تحل المعضلات وتفك الطلاسم وتفسر الألغاز.
قبل هبوب «الربيع العربي» كان المجتمع الدولي يتدخل ليفرض حلولاً على دولة عربية أو أكثر، بينها وبين دولة أخرى أو أكثر، مشكلة أو خلاف أو نزاع. أما بعده فصار الأمر مرتعاً أمام الكبير والصغير، من الأمم المتحدة ومنظماتها إلى أصغر منظمة حقوقية أو قناة فضائية أو حتى موقع إلكتروني، ليقترحوا الحلول أو ليفرضوها.
يغضب معارضو الأنظمة العربية وناشطو الثورات ونجوم الفضائيات إذا ما نبهتهم إلى أن رياح «الربيع العربي» لم تخلف وراءها إلا أنظمة مفككة ودولاً مقسمة ومجتمعات ممزقة وبلداناً مهددة بالسقوط وأوطاناً ظلت راسخة لعقود صارت مشغولة بمواجهة التهديدات، ويعتقدون بأنك بذلك تدعم الأنظمة السلطوية، وتؤيد الحكومات الديكتاتورية، ويتهمونك بالإساءة إلى دماء شهداء الثورات، وكأن المطلوب منك كي تكون وطنياً وثورياً ومناضلاً أن تغمي عينيك، أو أن تداري الشمس بيديك، وأن تتغافل عن مئات الآلاف من اللاجئين العرب الموزعين على الخيام والشواطئ، أو الذين غاصت جثث بعضهم في البحار والمحيطات.
مطلوب منك أن تكذب على نفسك والآخرين، وتفخر بأن «الربيع العربي» أتى للعرب بالحريات والرفاهية والعدل والمساواة، وتنظر حولك فلا تجد منها شيئاً، وأن تصدق أن العرب نقلوا من مرحلة التخلف إلى التقدم، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العشوائية إلى النظام، ومن الخوف إلى الشعور بالأمن والسلامة بعد موجة الثورات والانتفاضات.
الواقع يشير إلى أن «الربيع العربي» تحول سرطاناً وجحيماً على أصحابه لأسباب عدة، قد تتفق أو تختلف مع الآخرين حولها، لكنها لا تخفي الواقع الذي يعيشه كل العرب. نعم كان الإرهاب موجوداً، لكن ليس بالقدر الذي يهدد دولاً بالسقوط، وصحيح أن الجماعات الأصولية الراديكالية كانت منتشرة في أكثر من دولة، لكنها لم تتمكن قبل عواصف «الربيع العربي» من احتلال مدينة، أو السيطرة على دولة، أو إسقاط نظام حكم، أو التحكم في خلق الله.
كانت الشعوب العربية تعاني فقراً وجهلاً وتخلفاً على مختلف الأصعدة، لكنها كانت تحتفظ بالحد الأدنى من الأمان وأسس العيش ولو بالكاد. لم تكن الحياة وردية، لكن الموت كان أقل احتمالاً. حتى جماعة «الإخوان المسلمين» التي سعت إلى القفز فوق الثورات وتصورت أن «الربيع» أتى لها وحدها، كانت ضحية له بعدما أظهرت ما كانت تخفيه، وحكمت بعدما كانت في صفوف المعارضة، وفشلت ففقدت تعاطفاً من غير «الإخوان»، وتحولت إلى تنظيم طالب للثأر بعدما كانت جماعة تعنى بالتربية.
هل يعفي ما آلت إليه الأوضاع السيئة في العالم العربي الأنظمة التي حكمت عقوداً من المسؤولية؟ بالطبع لا، لكن ثبت بالأدلة القاطعة والحقائق الدامغة والواقع الذي لا يمكن إنكاره أن الثوار العرب ارتكبوا أخطاءً وخطايا، وأن حساباتهم كانت ضيقة ومحدودة وقاصرة. لم يدركوا حين دعوا الناس إلى الخروج إلى الشوارع أن بينهم من تحالفوا مع دول وجهات ومنظمات، وتحولوا إلى مجرد أدوات ضمن لعبة كبيرة لم يقدروا حجمها أو خطورتها، فأساؤوا إلى الثورة والثورات والربيع وكل الفصول.
اهتم «الإخوان» بالتربية لكن فقط بين أعضائهم ليدينوا بالولاء والطاعة للمرشد، وتلبية كل طلب وتنفيذ كل أمر، بينما انشغل الثوار والنخب والناشطون بتربية أنفسهم على التعامل مع الإعلام والظهور في البرامج والفضائيات والهتاف في الميادين وسب كل مخالف في الرأي أو الموقف.
ظهرت الشعوب في وادٍ آخر بعيدة من الحكم و «الإخوان» والنخب، وحين أتى «الربيع» تصور كل طرف أن في إمكانه تحريك الناس وكسب ولائهم، بينما الناس ديانات وطوائف وفئات وثقافات وأشكال وأنواع، فكان طبيعياً أن يأتي بعد «الربيع» الانفلات والتفكك والانهيار!
لم يبدأ «الربيع العربي» قبل خمس سنوات، كما نعتقد، في تونس ثم مصر ثم دول عربية أخرى، ولكن رائحته كانت تُنبئنا بالخطر القادم عندما سقطت بغداد وانهار العراق يوم 20 آذار (مارس) 2003، أي قبل 13 سنة بالتمام والكمال. وبعدها زحف «الربيع» وسقطت عواصم أخرى. ما زالت مصر تقاوم وتعاند وتجابه ما تبقى من آثار وأعاصير، وستستمر كذلك لفترة، ومعها دول عربية أخرى اقتنعت بأن لا خيار لها سوى العمل على تفادي المصير الذي آل إليه العراق، لتدفع الدول الناجية ثمن بقائها، وستظل لفترة تعاني، فعلاج السرطان يحتاج إلى وقت.
(المصدر: الحياة 2016-03-21)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews