العراقيون وقد تعبوا: الصراع يستهدف مذهبهم الديني
كيف يجد السني العراقي طريقا غير داعش وغير البعث وغير الإخوان؟ العقل السني العراقي مضغوط بقوة. مطلوب منه مسبقا أن يكون ضد إيران، ومسبقا يطلبون منه أن يكون ضد داعش، ومسبقا يطلبون منه أن يكون ضد البعث، “اجتثاث البعث”، ومسبقا يطلبون منه أن يكون ضد الإخوان المسلمين فهم على قوائم الإرهاب في الدول العربية أيضا. ماذا بقي للوجدان السني؟ إن السياسيين يطلبون منك أن لا تكون أحدا من هذه الأشياء، ولا يقترحون عليك منهجا بديلا، ويريدون منك أن تقاوم وتستمر ولا تستسلم، وتتبنّى معاناة موجودة على الأرض.
إن آلام السنة وحدها تكفي، ضياعهم وتمزقهم وغموض مصيرهم، فكيف إذا أضفنا لذلك الفراغ الوجداني، والحرب العالمية الثقافية على هويتهم. كيف يرتّبون أفكارهم وهم ممنوعون من كل طريق. لهذا في لحظة من اللحظات فكرت بأن هذا كله وهم، فإذا قيادات السنة تفكر بخدعة ومكر، لماذا الفرد يقع ضحية الإيمان بفكرة؟ ما هي المشكلة في التشيع؟ ربما العراق لم يعد بإمكانه أن يكون من مذهبين متصارعين؟ ما هي المشكلة بإيران؟ لماذا يحارب السني العربي الفرس والإيرانيين؟ السني العراقي يولد عدوا للإيرانيين.
الصحوات وشيوخ العشائر يركضون الآن في الرمادي يفجّرون البيوت ويصادرون الأموال والحلال ويهجّرون الأسر بحجة أن ولدهم داعشي. هذا العنف الدائر والكر والفر على السنة دمّر عقولهم، غدا يعود داعش ويفجر بيوت هؤلاء ويقطع رؤوس عوائلهم، وهكذا تدور الأمور.
كان السيد الأبيض في أميركا يضع على العبيد عبدا منهم لإدارة شؤونهم. وهذا العبد يكون أكثر عنصرية وقسوة من الأبيض. والسيد الشيعي حين يضع علينا عبدا سنيا فعليه أن يعلم بأن هذا العبد سيكون أقسى من كل الشيعة. لا نريد شيوخ عشائر رجاء، ولا نريد مسؤولين من السنة، نريد أن يكون جميع المسؤولين من الشيعة.
الناس تذهب إلى العمل والمهن المدنية وتدفع الضرائب. ألا ترون بوضوح أننا لا نصلح عقليا لشيء. لا نصلح بأن نكون مع داعش، ولا نصلح بأن نكون ضد داعش. لا نصلح بأن نكون مع إيران، ولا نصلح بأن نكون ضد إيران. ولا نصلح حتى أن نكون مع أميركا، ولا نصلح أن نكون ضد أميركا. وهذا مصير المرتزقة في النهاية، تتضارب عليهم الأدوار والهويات.
حتى الادعاء بأن الإيرانيين هم الذين يحرّضون العراقيين على الاحتراب غير دقيق. لولا الفارسي السيستاني لكان رد الشيعة العرب على البعثيين وداعش أكثر قسوة ربما. وتاريخ العراق شاهد بمشاهد قاسية لم تتدخل فيها إيران.
عام 1988 قام السيد علي حسن المجيد بقيادة حملة الأنفال ضد الأكراد، وكان وزير الدفاع السابق سلطان هاشم القائد العسكري لتلك الحملة المشينة حيث قام بتدمير 2000 قرية كردية، وإجبار قرابة نصف مليون كردي على الإقامة في قرى أقامتها الحكومة العراقية أشبه بالإقامة الجبرية، واعتقال حوالي 182 ألف كردي جرى إعدام عدد كبير منهم ودفنهم في قبور جماعية.
وفي بداية هجوم البغدادي على أربيل حين شارفت قوات تنظيم الدولة الإسلامية في زحفها على المدينة، وأصبحت على بعد 30 كلم منها صرّح بعض الدواعش بأنه كان في نيتهم تكرار عمليات الأنفال. إن نصف السنة يمجّد صدام حسين، ونصفهم الآخر يمجّد البغدادي. لهذا لا نلوم إخواننا في المذهب من الأكراد إذا تحالفوا مع الشيعة، ووجدوا فيهم طرفا أكثر مدعاة للثقة.
فقد خسرنا إخواننا في العروبة من الشيعة، وخسرنا إخواننا في المذهب من السنة. يكفي أن الجنرال قاسم سليماني هو الذي شارك بحماية كردستان بعد زيارة السيد مسعود البارزاني لطهران عام 2004. ولا نعترف لا بحملة أنفال ولا حلبچة من الجرائم التي ارتكبتها الحكومة البعثية السابقة بحق إخوتنا الأكراد. ليس عندنا تلك الشجاعة ولا نشعر بالخجل، كما نسمي المقابر الجماعية للشيعة التي شملت حتى الرضع بـ “المزابل الجماعية”.
وها هو داعش نفس الشيء، لا نعترف بأيّ مسؤولية عنها، وكما قلنا بأن حلبچة جريمة إيرانية، نقول اليوم بأن داعش إيراني بكل صلافة. هل الموصل داعشية أم شيراز؟ هل المتعاطفون مع داعش في القصيم أم في النجف؟
لقد سبق للشريف حسين في فترة يأس أن كتب للدوائر البريطانية يتهم عبدالعزيز آل سعود بأنه “شيوعي” فقط لتحريض البريطانيين ضد غريمه. فالشيوعية كانت مثل داعش “شر مطلق”. الشيعة ليسوا دواعش، والخميني يختلف عن البغدادي فكرة وأسلوبا. داعش ظهرت كواحدة من تفسيرات الإسلام السني. هذه مشكلتنا وعلينا القبول بالحقيقة.
وحتى في استرقاق وبيع وشراء الإيزيديات لا نكترث حقا للأمر. كل ما يهمنا التفسير الفقهي ومعنى الحديث في هذا الشأن. لا يخطر ببالنا ماذا سنفعل لو تم استرقاق نساء الموصل المسلمات وبيعهن وشراؤهن غدا؟ وعلى أيّ أساس يتم تخيير المسيحي بين الرحيل ودفع الجزية والإسلام؟ وعلى أيّ أساس تتم مصادرة أموالهم؟ هذه ثقافة لا يمكننا التنصل منها بالقول ها نحن نشرب “عرق” ولا علاقة لنا بداعش، سوف يتم ضربنا بالذلة والمسكنة حتى يهون علينا أمرنا. قتلتنا محنة القيم وأزمة القيادة وعدم احترام الثقافة، وقتلنا شيوخ القبائل المرتزقة.
ثم كيف أن إيران تحرضها على العنف؟ انظروا إلى ردة فعل الحكومة العراقية مقارنة بردة فعل الحكومة السورية. انظروا إلى الشيعي العربي العلماني الذي هجّر عشرة ملايين وقتل نصف مليون وضرب شعبه أربع مرات بالسلاح الكيمياوي، وأجبر الناس تحت التعذيب بترديد “لا إله إلا بشار الأسد” لأنه ببساطة شيعي عربي علماني لا سلطة للفارسي السيستاني عليه. كل ما تستطيع إيران فعله في الصراع هو دعم الشيعة العرب، وليست مسؤولة عن أخلاقهم. بدليل لا يوجد عنف مشابه للعنف العربي في إيران على الإطلاق.
حصيلة أكاذيبنا لقرن كامل كانت نتيجتها الدولة الإسلامية داعش. الطائرات التي تقصف الخليفة الآن تُحلق فوقها القهقهات. فكيف يمكن حل مشكلة كهذه بالطائرات؟ حين حلّق الطيران الملكي الإيراني وصار يقصف مقرات الثورة الإسلامية ضحك الخميني وهو ينظر من النافذة وقال لهم هذه الطائرات الحديثة ستحط على الأرض في النهاية. فإلى متى هذا التحليق في السماء، ربما هو مجرد هروب من الحقيقة والواقع.
يجب أن نعترف بوجود أخطاء وتناقضات. كيف نجلب أطباء نفسيين يعالجون الناس على أساس أن هناك خللا في فهمهم للدين يجعلهم متطرفين؟ الناس مساكين، لقد قيل لهم إن الجهاد في أفغانستان فضيلة ولا يجوز احتلال دولة مسلمة من دولة كافرة. 35 ألف سعودي تطوعوا في الثمانينات، غير الخيرين المؤمنين الذي تبرعوا بنصف أموالهم في سبيل الله. ثم جاء احتلال العراق وبعدها احتلال سوريا من قبل روسيا نفسها دون أن يكون هناك أيّ مشكلة.
المهم أن العراقيين قد تعبوا واكتشفوا أن الصراع ليس سياسيا بل يستهدف قلب مذهبهم الديني وهذا ليس مشكلة لحقن الدماء. فحتى المفتي السعودي لا يقول اليوم بأن الشيعة يذهبون إلى الجحيم مثلا، فلا فرق بين المذاهب، وإذا كانت هناك مصلحة وحقن دماء لا داعي للصراع المذهبي.
العراق فيه ضريح الحسين وعلي بن أبي طالب والحوزات الشيعية العلمية التي تضم مئات العلماء والمراجع وهناك دعم تاريخي من إيران. بالمقابل السنة ليس عندهم سوى مشعان وحميد الهايس والخنجر وداعش، ولا يوجد دعم عربي لهم. فما دام السفير السعودي في بغداد قال إنه سيعامل الجميع كعرب ولا يفرّق بين المذاهب فلماذا لا ننجو بأنفسنا، ونبقى عربا، أليست السعودية تحب العرب بغض النظر عن المذهب؟ المهم ننجو من تهمة الإرهاب ومن الصراع والتدافع المذهبي السياسي، وتنتهي هذه القصة الدموية العبثية.
المستقبل يبدو لنا شديد السواد. والقول بوجود أمل بعد داعش في العراق موهوم، فنحن لا نرى سوى مدن محطمة وشعوب ذليلة تشتم بعضها البعض في صلاة الجمعة وتقرف من رائحة الهزيمة.
كان المالكي يهدد ويتوعد وقد قتل وعزل وهجّر وسجن وعذب من السنة الكثيرين. فانتزع البغدادي الموصل وسقط المالكي فورا. كان ذلك أول مكسب سياسي “سني”. تحققه الدولة الإسلامية، واليوم يقولون إن القضاء على داعش يجب أن يكون مشروطا بتقديم حزمة من المكاسب السياسية والثقافية والاقتصادية لسنّة العراق. هذا معناه أن الخليفة البغدادي بمثابة المسيح “مِتُّ كي يؤكلَ الخبزُ باسم/ كي يذكروني مع الموسمِ”، ستكون كركرات الأطفال في المستقبل مدينة لبابا أبو بكر البغدادي.
ستلمحه العجائز في ليالي الشتاء تحت الغيوم، وعيونهن غارقة بالدمع والامتنان لبابا أبو بكر ورفاقه الانتحاريين المحبّين لأهل السنة، الذين أجبروا بوحشيتهم ودمائهم القوى العظمى على تغيير سياستها ومنح الناس المزيد من السلطة والثروة والسعادة.
هذا لن يحدث أبدا، لا أعتقد بوجود أيّ مكافأة لشعب يحتضن الإرهاب. المنطق يقول العكس هو الصحيح، وعلينا تقديم نصائح لسنة العراق بأن التاريخ حافل بأحداث من هذا النوع. المصريون غيروا دينهم أربع مرات من الفرعونية إلى اليوم، وغيروا مذهبهم من الشيعة الفاطمية إلى السنة، والإيرانيون كذلك غيروا مذهبهم على يد الشاه إسماعيل من السنة إلى الشيعة. وكل ذلك لأسباب مشابهة متعلقة بطلب الأمان والمصالح والاستقرار. خصوصا وأن نصف سنة العراق “لا يدينيون” فالتدين في العراق “شيعي” أساسا بسبب المدارس الدينية والمزارات المقدسة.
بوجود شبهة الإرهاب وتركة حزب البعث العراقي وجرائمه والضغط الدولي ونتيجة لعدم وجود دولة تجرؤ على مناصرة السنة علنا، أرى بأنه آن الأوان لهم بالتفكير جديا في هذه الورقة، رغم أنني أعلم بأن الآلاف من السنة في بغداد قد اقتنعوا بالتشيع، وهذا سبب هدوء العاصمة الأمني رغم وجود داعش.
(المصدر: العرب 2016-02-28)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews