الحنين إلى أيام التنافس الدولي
يعلّق البعض آمالاً واسعة على التحالف الدولي «بريكس» الذي يضم الصين، روسيا، الهند، البرازيل وجنوب إفريقيا، لتحقيق بعض التوازن في النظام العالمي. ومنذ ولادة «بريكس» في مطلع العقد الفائت وحتى سنوات قريبة، تغذت هذه الآمال من النجاحات التي حققتها الدول الخمس. وتوقّع المتفائلون أن تترجم هذه النجاحات الاقتصادية والسياسية إلى واقع دولي جديد يتسم بالطابع التعددي، فلا تتمكن دولة واحدة، مهما بلغت من القوة والثروة، من الهيمنة على النظام العالمي. ولقد بدا، في بعض الحالات التي تبعت انتهاء الحرب الباردة، أن «بريكس» قادرة على تحقيق درجة عالية من التوازن مع الحلف الأطلسي، ومع الولايات المتحدة بصورة خاصة.
خلال السنة الأخيرة اقتربت هذه الآمال من الواقع عندما تمكنت روسيا، بدعم صريح من الصين، من الاضطلاع بدور فعال في الأزمتين الأوكرانية والسورية. وبصرف النظر عن مدى صواب الموقف الروسي تجاه الأزمتين، ورغم أن موسكو لم تتمكن من تسجيل انتصارات حاسمة فيهما ، فإن مجرد كسبها بعض الجولات والنقاط، أفاد «بريكس» وعزز مصداقيتها.
ولكن إذا تطلع المرء إلى الصورة العامة لأوضاع التحالف الخماسي، لتبين له أن «بريكس» فقدت بعضاً من ألقها والآمال المعلقة عليها لسببين رئيسيين:
الأول، هو التطورات الأخيرة في البرازيل والمتمثلة في الصعوبات التي تواجه رئيسة البلاد، ديلما روسيف، ومعها اليسار البرازيلي متمثلاً بحزب العمال البرازيلي. ويجدر بالذكر أن هذه المصاعب لا تواجه اليسار البرازيلي وحده، بل إنها تطال اليسار في أمريكا اللاتينية عموماً. ويعكس هذا الواقع، بدوره، واقع بيئة إقليمية مهمة استندت إليها «بريكس» فأسهمت في إضفاء المصداقية والمشروعية السياسية عليها. ومع تراجع حزب العمال وتراجع اليسار في دول أخرى من أمريكا اللاتينية مثل الأرجنتين وفنزويلا، تخسر «بريكس» قاعدة مهمة من قواعدها، وهي خسارة تنال من اندفاع وقوة الدعوة إلى التعددية الدولية لصالح الدعوة إلى نظام دولي آحادي الطابع بزعامة الولايات المتحدة تحديداً.
التطور الثاني، يتمثل في التقارب المطرد بين الولايات المتحدة والهند. ولقد أكد الزعماء الأمريكيون بصورة خاصة أن هذا التقارب هو حصيلة التوافق الفكري والسياسي بين البلدين وبين النخب الحاكمة فيهما. والمقصود هنا هو أن الحزب الحاكم في الهند اليوم هو حزب ديمقراطي ليبرالي مثل الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة. ولكن تاريخ حزب بهاراتيا جاناتا لا يؤكد هذا التقييم، كما أن التاريخ الشخصي لناريندرا مودي زعيم الحزب ورئيس حكومته يدلان على أن مودي وحزبه بعيدان عن تمثّل التقاليد الديمقراطية المنتشرة في البلدين. فحزب جاناتا وزعيمه مودي متهمان بأنهما نظّما أعمال العنف ضد المسلمين في الهند، وأنهما تدخلا لمنع إجراء التحقيق في هذه الأعمال، وبسطا حمايتهما على الذين ارتكبوا هذه الأعمال.
ولا يحتاج المرء إلى معرفة غزيرة بأوضاع شرق وجنوب آسيا حتى يدرك أن العنصر الأهم في التعاون الأمريكي - الهندي هو الموقف تجاه الصين، والسعي المشترك إلى عزلها وإضعافها. فضلاً عن ذلك، فقد لعبت «إسرائيل» دوراً مهماً في التقارب الأمريكي - الهندي. ول«الإسرائيليين» علاقة حميمة قديمة بمودي وبحزب جاناتا. فالعداء للإسلام يعني عند «الإسرائيليين»، في نهاية المطاف، عداء للعرب. وقد لمس «الإسرائيليون» في مودي معبراً جيداً عن هذه النزعة، وسارعوا إلى تطوير العلاقة معه قبل سنوات طويلة من وصوله إلى رئاسة الحكومة، كما عملوا على تحسين علاقاته المتوترة مع واشنطن.
من المتوقع أن تؤدي التراجعات التي أصابت «بريكس» إلى تحوّل النظام الدولي إلى نظام آحادي صرف. وهذه التوقعات في محلها ولكن من الأصح عدم المبالغة فيها. والمبالغة هنا تعني إغفال أهمية العوامل التي تؤثر في دول «بريكس». فالنخبة السياسية الهندية ثابرت على التمسك بعلاقات وثيقة مع روسيا. ويعود هذا التقليد في السياسة الهندية إلى مخاوف حكام الهند من تطلعات الصين، وفي الوقت نفسه إلى شكوكهم في سياسة واشنطن تجاه الصراع الصيني - الهندي. ويسير مودي اليوم على نفس النهج، فهو يقيم علاقات وثيقة مع موسكو ويسعى إلى عقد صفقات سلاح معها في نفس الوقت الذي يحسن فيه علاقات الهند مع الولايات المتحدة. وهذا النهج في العلاقات الهندية - الروسية يساعد على استمرار «بريكس».
فضلاً عن ذلك فإن بكين نفسها لا تشترط على الدول التي تنخرط معها في مشاريع مشتركة أن تتخلى عن صلاتها مع الولايات المتحدة. بل إن بكين ذهبت إلى أبعد من ذلك في إظهار المرونة والواقعية السياسية على صعيد علاقاتها الخارجية. فعندما أعلنت واشنطن التوصل إلى منطقة التجارة الحرة العابرة لأقطار الباسيفيكي، وعندما أعلنت أنها تعمدت إقصاء الصين عن المنطقة «في مرحلتها الأولى»، ردت بكين على هذا السلوك بصيغة النقد الملطف لواشنطن، ولكنها في الوقت نفسه أعلنت استعدادها، رغم الموقف الأمريكي السلبي، للانضمام اللاحق إلى المنطقة. لذلك فمن المتوقع ألا تتصرف بكين على نحو يؤثر في مصير «بريكس» إذا ما استمرت دلهي في تطوير علاقتها مع واشنطن.
إن «بريكس» قد تتراجع وقد تصبح أقل فاعلية مما هي الآن، ولكن استمرار «بريكس»هو أمر يعود بالفائدة على كل من له مصلحة في قيام نظام دولي تعددي. ينطبق هذا الأمر بصورة خاصة على المنطقة العربية. فالعرب خسروا الكثير عندما انهار النظام الدولي التعددي، وعندما تحولت الولايات المتحدة إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم. ورغم كافة الانتقادات التي توجه عادة إلى مرحلة الحرب الباردة، فإن أجواء التنافس الدولي التي سادت تلك المرحلة سمحت للعرب، وللكثير من الشعوب والأمم التي تتوق إلى الحرية أن يحققوا مقداراً معقولاً من التضامن والتفاهم فيما بينهم، أما عندما غابت تلك الأجواء، فقد طغت الانقسامات على العلاقة بين الدول العربية، وخسرت مرتين: مرة وحدتها الترابية، وأخرى تكاملها الإقليمي.
(الخليج 2016-01-15)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews