اتفاق «الصخيرات» ومستقبل السلام في ليبيا
عندما انطلقت جولات الحوار الليبي في المغرب ودول أخرى، بإشراف من الأمم المتحدة، ودعم عدد من الدول العربية والغربية، في ظروف عسكرية ملتهبة أضحت معها ليبيا منقسمة بين سلطتين تدّعيان الشرعية في حكم البلاد، ساد نوع من الأمل الحذر في أوساط المجتمع الليبي، وفي الأوساط الدولية التي ظل الملف الليبي يؤرقها بالنظر لتداعياته الممتدة في منطقة استراتيجية مطلّة على البحر المتوسط وما يطرحه ذلك من إشكالات أمنية مرتبطة بنشاط الجماعات المسلحة والتهريب والهجرة السرية.. حيث اعتبر المبعوث الأممي حينها أن الأمر يتعلق بفرصة مهمة ينبغي استثمارها، خصوصاً وأن الأوضاع الليبية المتدهورة أصلاً، يمكن أن تتجه نحو الأسوأ.
وبعد جولات من المفاوضات العسيرة التي قادتها الكثير من الأطراف المتصارعة، وفي أجواء من الاحتقان السياسي والفوضى الأمنية بالبلاد، تمكن الفرقاء الليبيون من عقد اتفاق مهم بمدينة الصخيرات يقضي بتشكيل حكومة وفاق وطني تدبّر المرحلة الانتقالية التي يفترض أن تقود إلى تنظيم انتخابات تشريعية، علاوة على توسيع تشكيلة المجلس الرئاسي ودعم انفتاحه، فيما ستنقل إليه مختلف الصلاحيات والمهام في المجالات المدنية والعسكرية.
ينطوي توقيع الاتفاق على أهمية كبرى بالنظر لعدة اعتبارات، يمكن إجمالها في السياق العام الذي رافقه وما يرتبط به من سوء الأوضاع الليبية على عدة واجهات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية، وتداعياتها الإقليمية والدولية من حيث تنامي المخاطر الأمنية نتيجة لتسرب السلاح الليبي إلى العديد من الفصائل والجماعات المسلحة التي انتعشت وسط الفوضى الأمنية التي عمّت البلاد.
كما لا تخفى أهمية الإشراف الأممي على المبادرة وحضور فعاليات رسمية ومدنية دولية وإقليمية لمدينة الصخيرات المغربية دعماً لهذا الاتفاق.
وتنضاف إلى ذلك أيضاً المضامين المهمة للاتفاق، باعتباره يدعم وحدة الصف الليبي وبناء المؤسسات، ويحسم مظاهر العنف والفوضى التي سادت بالبلاد على امتداد أكثر من أربع سنوات، ثم الترحيب الليبي والدولي الكبير الذي قوبل به الاتفاق والتفاؤل بانعكاساته المنتظرة على استقرار ليبيا والمنطقة برمّتها.
ولا تخفى أهمية الحضور الوازن لمختلف الأطياف الليبية، بما يعطي المصداقية للاتفاق، علاوة على احتضان المغرب للاتفاق، وهو البلد الذي ظل مسانداً لوحدة واستقرار ليبيا واستضاف ورعى جولات عدة من المفاوضات التي جرت بين مختلف الفصائل الليبية.
إن توقيع الاتفاق هو تتويج عملي لجهود ومبادرات بنّاءة قادتها العديد من الدول كما هو الشأن بالنسبة للمغرب الذي لعب دوراً مهماً في استضافة ومواكبة المفاوضات التي عقدها مختلف الفرقاء الليبيين بمدينة الصخيرات.
ورغم الصعوبات والتحديات المختلفة التي ستواجه الاتفاق، فإن وضع مقتضياتها على أرض الواقع يتطلب تعبئة داخلية وتركيزاً على المشترك والأولويات بين مختلف الفصائل والأطراف الليبية، كما يتطلب الأمر أيضاً توفير المناخ الإقليمي والدولي اللازم في هذا الصدد.
إن تعزيز الاستقرار في ليبيا، هو رهان داخلي بالدرجة الأولى، سيسمح بكل تأكيد إلى الاستفادة من حجم التضحيات التي قدمها الليبيون على امتداد أكثر من أربع سنوات، والانكباب على بناء المؤسسات السياسية والدستورية واستثمار الإمكانات المختلفة التي تزخر بها البلاد على طريق تحقيق التنمية المنتظرة.
كما أن استقرار المنطقة المغاربية، وكسب رهان بناء مغرب كبير قادر على مواجهة التحديات التي يفرضها المحيط الإقليمي والدولي في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية، لن يتأتى إلا باستقرار هذا البلد المغاربي.
كما سيوفر هذا الاستقرار محيطاً آمناً لدول الضفة الشمالية من المتوسط التي أصبحت تعاني من تزايد حدّة الهجرة السرية نحوها، تحت وطأة تدهور الأوضاع في عدد من البلدان الإفريقية ودول الحراك، وهشاشة الحماية الأمنية للحدود الليبية براً وبحراً والتي أضحت محجّاً مفضلاً لعدد من الراغبين في الهجرة السرية نحو الضفة الشمالية للمتوسط.
لقد بذلت الأمم المتحدة مجهوداً كبيراً في إنضاج الاتفاق من خلال إشراف مبعوثها على مسار المفاوضات التي شهدها المغرب وغيره من الدول، وهو ما يشكل إنجازاً مهماً لها في حال النجاح على مستوى تطبيق مضامينه يمكن أن يعيد لها المصداقية في مرحلة تنامت فيها الانتقادات الموجهة إلى هذه المنظمة العالمية.
ما زالت هناك الكثير من التحديات والصعوبات التي تواجه الاتفاق، فعلاوة على غياب أجندة واضحة المعالم لتنفيذه ميدانياً، فهناك بعض الفرقاء الذين لم يوافقوا بعد على بنوده. غير أن المبعوث الأممي نبّه إلى أهمية الاتفاق وحيويته، وأن وجود خلافات بين بعض الفرقاء لا يلغي الاتفاق ولا يعني إيقافه، خصوصاً وأن هناك فعاليات سياسية ومدنية ليبية ودولية وإقليمية عديدة تدعمه.
إن تفعيل الاتفاق اليوم قبل الغد يفرض نفسه بقوة أمام مجموعة من المعطيات، أولها حالة التذمّر السائد في الأوساط الشعبية الليبية من تأخر بلورة حل يدعم الاستقرار وتجاوز حالة الفوضى الأمنية السائدة في الوقت الراهن، إضافة إلى الانقسام القائم على مستوى السلطة بين حكومة معترف بها دولياً في المناطق الشرقية للبلاد وأخرى موازية في منطقة طرابلس، وهما مدعومتان بميليشيات عسكرية ونخب سياسية ومكونات قبلية.
يشكّل اتفاق الصخيرات أرضية مهمة يفترض أن تتلوها مبادرات أخرى، تدعم بناء المؤسسات وتحقيق الأمن الذي يطمح إليه الليبيون، في أفق استثمار الإمكانات المتاحة لهذا البلد خدمة لتنمية واعدة، وهو خيار يتطلب دعماً داخلياً يبدأ من جمع الأسلحة المتفرقة بين أيدي الميليشيات والفصائل بسبل مختلفة يمكن الاستئناس فيها بتجارب دولية سابقة، كما هو الشأن بالحالة الكمبودية وغيرها، عبر إدماج هذه الفصائل في أسلاك الجيش والشرطة، أو بتقديم مقابل مادي للمسلحين تبعاً لنوع السلاح المسلّم، وانخراط مختلف الفصائل في مرحلة البناء واستحضار وحدة ليبيا، كما يتطلب الأمر أيضاً محيطاً دولياً وإقليمياً داعماً لكل المبادرات السلمية البناءة بعيداً عن أية حسابات ومصالح ضيقة أو تحريض طرف ضد آخر.
(المصدر : الخليج 2015-12-25)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews