الأهم من تحرير الرمادي تحرير العقول
عام 1995 كنّا نسير في الليل بدمشق، الشاعر زاهر الجيزاني وأنا وقال: ربما الشيعة قد ظُلِموا منذ سبعين عاما في العراق خصوصا في مراحل الثورة الخمينية والحرب مع إيران، إلا أنني كشاعر وإنسان محب لبلادي لا أتمنى أن يحدث انتقام طائفي نتيجة لذلك، لأنني مؤمن بأن القاتل والقتيل سيعانيان ويتألمان.
بهذه القيم تكبر الكتابة والشعوب. معظم شعراء وكتاب العراق يتألمون في الحقيقة، إلا أننا نرى أيضا الكثير من الصبيان المتحمسين ونحن غير مستعدين لبث المزيد من الحماسة الثأرية فيهم. إنهم لا يطالبون بالعدالة بل متعطشون للثأر والدماء، وهذه قضية تعيدنا إلى ذلك الحوار في تلك الليلة الدمشقية. ماذا نستفيد لو أخذ السنّة السلطان مرة أخرى وتمكنوا من ثأرهم؟ ما هي الفائدة من هذه الحلقة المفرغة من الظلم المتبادل؟
عندما قام هتلر بذبح وتهجير الملايين من اليهود الألمان ماذا فعل الكتاب اليهود؟ هل طالبوا بذبح جميع الألمان، أم نشروا معاناتهم وعذاباتهم بأسلوب جمالي إنساني، وكسبوا ذلك التعاطف العالمي الذي هو أثمن من الثأر والانتقام. لقد ضاعت حقوق الآلاف من الأبرياء في العراق بسبب إصدارات داعش الإجرامية. فأنت حين تنشر الرعب تخسر تعاطف الناس ومحبتهم، حتى لو كنت مظلوما فإن سلوكك المخيف سيضيّع حقوقك.
بعد الاحتلال حدثت جرائم بشعة وتهميش بحق السنة وثقافتهم، وكذلك الأمر في الحرب الأهلية السورية، ولكن السؤال ما هو المطلوب الآن؟ هل المطلوب تهجير المسيحيين من سوريا ولبنان كما فعل داعش بهم في الموصل؟ هل المطلوب إبادة العلويين في اللاذقية وإلقائهم بالبحر؟ هل المطلوب ذبح “الروافض” عن بكرة أبيهم ببغداد والبصرة وتهجيرهم إلى إيران؟
هذه هي المشكلة التي وحدت العالم كله ضد السنة، لأن الموضوع ثقافيا غير مقبول، لا يُحسنون التظلم ولا يؤمنون بالحقوق، بل يأخذون الدنيا غلابا بالقوة والبطش، إلا أن القوة المفرطة تجمع العالم ضد المتطرفين. مئات الجثث في باريس أخافت أوروبا كلها. وأصبح الموضوع في العراق على يد داعش ليس التهميش الطائفي والعدل والوظائف، بل سب الصحابة وأُمّنا عائشة وعبادة القبور والتوحيد، كما لو أن الخطاب قد دخل في نفق مظلم لا ضوء فيه ولا معنى.
مهما تقلبت الأحداث، علينا التمسك دائماً بالعقل، لا مفر من ذلك، وحتى لو أخذتنا الحماسة علينا أن نعود إلى العقل في النهاية. لقد رأينا في الربيع العربي الشعوب تثور وكأننا فجأة صرنا نرى روبيسبيير في مناماتنا. ثم اتضح بأن الدنيا هي الدنيا كما نعرفها، وأنه لم يتغير شيء على الإطلاق.
واليوم بظهور داعش صرنا نردد أحاديث يوم القيامة ونهاية العالم، ومع الوقت سنكتشف بأن الدنيا على حالها، ولن يتغير شيء في الحقيقة. أحيانا نحقد على زعيم طائفي مثل نوري المالكي لأنه قال كلمة “فقاعة” في وصف الاعتصامات السنية في العراق عام 2012، ثم تبين بأنها فعلا كانت فقاعة، فكيف يسفر حراك سلمي حضاري عن داعش مثلا؟ كيف يتحول الاعتصام ضد الطائفية إلى خطابات أبو محمد العدناني؟
حراك بهذا الحجم المليوني أين قادته؟ أين كتبه؟ أين رواياته وشعره؟ أين عطاؤنا الإنساني في محنتنا الطويلة؟ لا شيء يا سادة كما لو أننا حقاً فقاعة فمن غير المعقول ألا يكون لأحد صوت سوى صوت داعش.
داعش انتهى اليوم فخطابه لم يعد مقبولا. أما الدواعش فعندي رسالة لهم، اكرهوا كل الناس من اليابان إلى الهند إلى أوروبا إلى كندا إلى أستراليا، خاصة الشعب الفارسي والشيعي، اكرهوا العالم بأسره، اقتلوا الجميع. إصدار أول رميا بالرصاص، إصدار ثان تغريقا بالنهر، إصدار ثالث حرقا بالنار، إصدار رابع ذبحا بالسكين، إصدار خامس الأطفال يذبحون الأسرى، إصدار سادس سبي النساء، إصدار سابع الرمي من علو شاهق، إصدار ثامن قطع الأطراف من خلاف، إصدار تاسع قطع اليد. هذا العبث بعقول المسلمين لم يعد مقبولا.
الأهم اليوم من تحرير الرمادي هو تحرير العقول، حتى لا تتكرر هذه التجربة الكئيبة من العنف الطائفي المتبادل.
(المصدر: العرب 2015-12-24)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews