الجامعة العربية في 70 عاما: سقوط 'الوحدة'
سبعة عقود مرت على إنشاء جامعة الدول العربية. كان المؤسسون الأوائل (مصر والعراق ولبنان والسعودية وسوريا وشرق الأردن واليمن) خارجين للتوّ من زمن الوصاية الدولية، احتلالاً أو انتداباً، تواقين بصدق البدايات إلى ما يشدّ أزرهم ويقوي وجودهم. ترعرعت الجامعة، نمت وكبرت، وربما تضخّمت (22 عضواً)، وانتفخ داخلها طموح آت من مواسم الأيديولوجيا. وفي جردة حساب لسبعين عاماً ما يكشف عن خواء في المضمون لا يسعفه شكلٌ ولا تخفيه مباهجُ الاحتفال.
تزامنت الإرهاصات الأولى للمشروعيْن الوحدويين الأوروبي والعربي (1945 عربياً و1951 أوروبياً). سلك الأوروبيون درباً متأنياً في سيرورته ينطلقُ مما هو مشتركٌ في الاقتصاد والمصالح باتجاه وحدة سياسية ما زالت قيد البناء إلى يومنا الراهن. بدا أن العربَ أرادوا اختصار المناورة الأوروبية وذهبوا مباشرة إلى ما هو سياسي صرف، فكان أن انقسموا وتباينوا وتصدّع بنيانُهم الافتراضي، ويستمر تصدّعه إلى يومنا الراهن. وما بين التجربتين تتعمقُ الهوّة بين عالمين ومنطقين وتطورين، على ما يكشف عبقريةَ الفكرة الأوروبية ووهنَ الفكرة العربية وهزالها.
كان الفرنسي روبير شومان (1886-1963) يقبعُ في سجون ألمانيا النازية حين فاتح زملاءه في الأسر عن نيته إطلاق مشروع للوحدة الأوروبية عماده الأساسي محور فرنسي ألماني. كانت الفكرة جنوناً في زمن الاحتلال الألماني لفرنسا، ولم يكن آنذاك بالإمكان تعقّل أي مصالحة بين البلدين، حتى بعد انتهاء الحرب، حتى أن الجنرال شارل ديغول كان يعتبرُ أن ألمانيا التي شنت ثلاث حروب على فرنسا في حياة إنسان واحد، وجب أن لا تقوم لتلك الدولة قائمة.
ارتجل العربُ مشروعهم الوحدوي وفق معايير تكاد تكون بدوية في انفعالاتها وتقاليدها. انطلقت دينامية السعي من بدائية “حنا عرب على بعضنا” ليبرروا اللهث وراء الدولة العربية الواحدة “من المحيط إلى الخليج”، ذلك أن اللغة والثقافة والدين كانت تدفع لاستسهال ما هو معقّد وبنيوي، والتعجّل في استشراف نهاياته. لم يقم المشروع العروبي وفق نزق الزعماء الذين وقَّعوا على وثيقة تأسيسه فقط، بل متأثراً بأدبيات القوميين التي فاض حبرُها توقاً للخروج من كنف العثمانية الثقيل.
أطاحت الحرب الكورية (1950) بمشروع تفتيت ألمانيا وتوزيعها إلى مناطق نفوذ بين المنتصرين، وأنهت الحرب الباردة ما أراده ديغول لألمانيا، فكان أن صدقت نبوءة شومان وقامت أوروبا وفق مشترك فرنسي ألماني (غربي آنذاك).
بنى الأوروبيون جدران “وحدتهم” على قاعدة أن الأمر ليس “حتمية تاريخية” تعلنها نصوص المنظّرين، بل عملية تجريبية يومية منخفضة السقوف متواضعة الطموح. رسم الأوروبيون بنيانهم معترفين بتعدد مكوناتهم وتنافر لغاتهم واختلاف أديانهم وتفاوت مستويات معيشتهم وتناقض مصالحهم. شيّد الأوروبيون ناديهم وانتقوا أعضاءه ووضعوا شروطاً للانتساب له، ثم أمعنوا في جعله مرناً يجوز للبعض فيه ما لا يجوز لغيره، فبدت العضوية به متعددة السرعات داخل الجسم الواحد.
لا يعرفُ المواطن العربي ما الذي غيرته جامعة الدول العربية في يومياته وطريقه عيشه. بالمقابل يدركُ المواطن الأوروبي ما أحدثته أوروبا في صيرورة عمله وأمنه ومستوى معيشته، كما في يوميات قطاعات بلده في التعليم والاقتصاد والقانون. واكب المواطن العربي همّة القمم العربية بصفتها فرجة استعراضية، قلما أنتجت فعلاً مفصلياً مباشراً، وكثيراً ما تخصّبت بضجيج أعاد التأكيد أننا “ظاهرة صوتية” تتلاشى في فضاء عالم شديد التحوّل.
في احتفاليات العقود السبعة ما يعيدُ قراءة المشروع العربي من جديد. وفي ما جمع مؤسسة الفكر العربي بجامعة الدول العربية في مؤتمر القاهرة الأخير ما أتاح جرأة في مباشرة ورشة تفكيك تطمحُ إلى إعادة تركيب وفق رؤى العقل ومنطق الزمن. وفي تقاطع ما هو رسميٌّ يمثّل النظام العربي السياسي، بما هو فكريٌّ وثقافي يمثّل تيارات العقل في المنطقة، تمرينٌ متكلّف على الرغم من الطقوس الاحتفالية التي حاولت إخفاء ذلك.
يعيدُ الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في افتتاحه لأعمال المؤتمر التأكيد على لزومية العمل المشترك، ويعيد المطالبة بتفعيل القوة العربية المشتركة العزيزة على قلب القاهرة (قررتها قمة شرم الشيخ في مارس الماضي)، ذلك أن الأساس يكمن في “الدفاع والأمن” بما يعبّر عن هواجس المنطقة الحالية. وفي ما صدر عن “الجامعيين”، ابتداء بأمين الجامعة العام نبيل العربي، مروراً ببعض بدبلوماسييها، انتهاء ببعض السفراء العرب فيها، ما يكشفُ عن رتابة مخصّبة بالتمني واعتراف بالفشل. بالمقابل، يكشفُ ما صدر عن “فكر” وبيئتها ما يفيضُ بتمرد حصيف على ما هو جامد لا يتحوّل. في كلمات رئيس المؤسسة، الأمير خالد الفيصل، في شكلها الشعري غضب مما آلت إليه أمور “الأمة” وهو الذي، ومنذ 15 عاماً (أُطلقت المؤسسة في صيف عام 2000)، لم يفقد الأمل بما يمكن للعرب أن يفعلوا ويفعّلوا، فاستمرت مؤسسته تنبض وتتجدد في زمن يسهلُ به الشعور بالخيبة والاستسلام لها.
هو كلامٌ عن “التكامل”. هكذا يعرّف هنري العويط مدير عام مؤسسة الفكر العربي المسعى الحالي لمقاربة شؤون العرب. لا طائل من الدفع بما هو متخيّل نفخته قريحة القوميين العرب، ذلك أن نظرياتهم الحالمة لم تأت بالوحدة، لكنها أتت، بنجاح، بأنظمة استبداد جعلت من مشروع الوحدة العربية مرادفاً للديكتاتورية في أسوء صورها. وتحت سقف التكامل كما أعلنه العويط شعاراً ونصوصاً وورش عمل، تحررت الكلماتُ السجينة لتصدح داخل قاعة الاجتماعات الكبرى في مبنى الجامعة: أمننا ليس مخترقاً أمننا مستباح، والقومية العروبية بدعة تقادمت وحان أن ترثها العروبة المستنيرة بديلاً.
لم تخرج الجامعة العربية من أداء رتيب في شكله ومضمونه رغم الإقرار بتواضع المحصول، ولم تدخل مؤسسة الفكر العربي إلى دائرة الفعل الناجع البديل أو الرديف. وما بين الطرفين بونٌ يحفره تصادمُ أجندات السياسيين بأولويات المفكرين. ثمّة من يتحرى تكاملاً بين صاحب القرار وصاحب الفكرة في تقاطع الجامعة بالمؤسسة، بيد أن أمر ذلك دونه عفن تراكم في العقلية الحاكمة التي سادت وظيفة الجامعة وهامش حراكها.
يداهم “ربيع″ العرب “الجامعة” كما “المؤسسة”، فيتجاوز في وقعه ما صدم أصحاب القرار وما أستشرفه أهل الفكر. يضعُ ذلك الحدث الجميع في سلّة واحدة تكشف بشفافية عري الأداء الرسمي وارتباك الوعاء الفكري الذي تنضحُ به قريحة المثقفين وأشباههم. فإذا ما كان الفعل الرسمي سهلَ الرصد هيّن النقد، فإن مداولات مؤتمر “فكر 14″ أماطت اللثام أحياناً عن محدودية أداء بعض المثقفين وفقر دلوهم، كما كشف عن تباين في المستويات وعدم خروجها عن مفردات ومقاربات سادت العقود الأخيرة. ومع ذلك فإن مجردَ القبول بإسقاط المحرّم والمقدس وتجاوز ما هو تقليدي في الأداء الجمعي العربي، يبشّر بالعبور نحو فضاءات لا تحتمل شعبوية فضفاضة في معالجة الإشكاليات، وتدفع صوب استخدام أدوات المنطق والعلم وأساليبه الحديثة. في ذلك يسقطُ المشروع العربي بطبعته البلاغية الفصيحة، ويقوم مشروع بديل تصطفُ مداميكه على مصالح ومنافع تهمّ مباشرة الفرد العربي، وتقوم أعمدته على معطيات أرقام وإحصاءات.
من يراجع مسيرة جامعة الدول العربية بتجرد قد يدهشه كمّ المشاريع الوحدوية التي أُقرت بعد دراسة وتمحيص وتردد وجدل. لم يتعرف المواطن العربي على تلك المشاريع ولم يصادفها في يومياته، ذلك أنها بقيت تمريناً أبجدياً تحتضنه وثائق الجامعة في أرشيفها الغني. ومن يرى في سعي “فكر” نوراً في آخر النفق عليه أن يتعظ من تجربة من حاولوا الإنجاز خلال السبعين عاماً الماضية، وينتقل إلى مقاربة مبدعة لا تتحرى رسم النهايات بل تحقيقها، ولا تجهدُ فقط لتشييد الأشرعة بل صناعة الريح للنفخ بها. وللانتقال إلى تلك الفضاءات وجب الإمعان في التفكيك الذي قد يقرّ بأننا لسنا “أمة” ولسنا “واحداً”، بل أن فينا من التعدد المضمر ما يجعلُ اختلافنا بنيوياً اختلاف الأوروبيين المعلن.
(المصدر: العرب اللندنية2015-12-18)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews