أزمة القاهرة والخرطوم
حين تتناقل مواقع التواصل الاجتماعى فى السودان عبارة «مصر ليست أخت بلادى»، وحين يذهب البعض هناك إلى حد إطلاق حملة «لا تسافر إلى مصر».
وحين يعلق آخرون من أصحاب المحال التجارية فى الخرطوم لافتات كتب عليها عبارة «ممنوع دخول المصريين». فإن ذلك لا يصدمنا فحسب، وإنما يشعرنا أيضا بالحزن والخزى. الحزن لأن العلاقات بين البلدين تدهورت حتى وصلت إلى تلك الدرجة من المرارة والغضب. والخزى لأننا تركنا الأمور تتدهور حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، دون أن يثار الموضوع فى منابر الإعلام والسياسة المصرية. إذ فيما هو ظاهر على الأقل فإننا لم نشهد تحركا جادا لاحتواء ما طرأ من خلافات حتى اتسع نطاقها وتحولت إلى أزمة اختلطت فيها الأوراق واستدعيت الحساسيات، وأصبح الاحتواء أكثر صعوبة.
قد لا تخلو العبارات التى وجدتها متداولة على مواقع التواصل الاجتماعى من مبالغة. وهى فى كل أحوالها محسوبة على بعض الأفراد الغاضبين، فلا هى تعبر عن رأى رسمى ولا عن أى تيار سياسى أو مؤسسة ذات وزن فى الخرطوم، مع ذلك فلا ينبغى أن نقلل من شأنها، لأنها مهما صغر شأنها تعبر عن حالة من الاستياء والغضب موجودة لدى بعض شرائح السوادنيين، خصوصا الأجيال الجديدة الأكثر إقبالا على وسائل التواصل الحديثة.
ظاهر الأمر أن هناك شكوى من سوء معاملة السوادنيين فى مصر، ولأن تفاصيل ذلك الملف ليست مذكورة فى وسائل الإعلام المصرية التى أتابعها على الأقل، قد اعتمدت على «الإنترنت» فى تتبع خلفيات الموضوع. وكانت حصيلة البحث كالتالى: هناك أخبار عن إطلاق الرصاص على خمسة سودانيين حاولوا عبور الحدود المصرية إلى إسرائىل. وثمة أخبار عن مقتل ١٥ آخرين قاموا بنفس المحاولة بينهم عدد من السودانيين أيضا. ثمة أخبار أخرى عن إلقاء القبض على بعض السوادنيين فى القاهرة، وتفتيش بيوتهم، أحدهم ألقى القبض عليه أمام محل للصرافة ومصادرة ٥٠٠ دولار كانت معه. والذين ألقى القبض عليهم تعرضوا للتعذيب فى أماكن الاحتجاز. وعلى الفيس بوك صورة لواحد منهم ظهرت آثار التعذيب على ظهره. هناك معلومات إضافية عن احتجاز بعض عمال التنقيب السودانيين بالقرب من البحر الأحمر، وتوسط السعودية لإطلاق سراحهم بعد الزيارة الأخيرة التى قام بها الرئيس عمر البشير للرياض أخيرا.
معلومات الإنترنت ذكرت أيضا أن مذكرة احتجاج سودانية قدمت إلى الخارجية المصرية بخصوص الموضوع، وأن السفارة المصرية فى الخرطوم تلقت استفسارا بخصوص ما أثير عن سوء معاملة السودانيين إلا أن الأخيرة ردت بأنها لا تملك معلومات فى هذا الصدد.
الشاهد أنه فى حين أن قضية العلاقات المتوترة مع القاهرة مثارة بصوت عالٍ فى الإعلام والبرلمان السودانيين، فإنها لم تطرح على الرأى العام المصرى. وهو ما أثار استياء بعض السودانيين الذين اعتبروا ذلك نوعا من الاستخفاف واللا مبالاة من القاهرة. المناقشات الغاضبة فى الخرطوم ترددت فيها دعوات لإلغاء اتفاقية الحريات الأربع الموقعة بين البلدين (الإقامة والتنقل والعمل والملكية) التى قالوا إن مصر لم تلتزم بها على عكس السودان، كما تحدث البعض فى مقاطعة شركة مصر للطيران. وفتح ملف مثلث حلايب وموقف مصر إزاء السيادة عليه، وما يقال عن حقوق السودان التاريخية فيه.
متابعة التفاصيل تعطى انطباعا بأن ما قيل عن سوء معاملة بعض السودانيين فى مصر لم يكن جوهر الخلاف ولكنه كان القشرة التى حين انكسرت فإنها كشفت عن أمور أخرى أكثر عمقا وأشد تعقيدا. ورغم أن ثمة دعوات أطلقت لتقصى الحقيقة فى موضوع سوء المعاملة، فإننى أزعم أن ذلك هو الادعاء الوحيد الذى لا يحتاج إلى جهد كبير لتحريره. حيث أخشى أن تكون الأجهزة الأمنية تعاملت مع السودانيين باعتبارهم «أشقاء» حقا، ومن ثم عاملتهم بذات الأسلوب الذى تعامل به المحتجزين المصريين. والأمر فى هذه الحالة يحتاج إلى تصحيح بسيط يذكر تلك الأجهزة بأن أولئك الأشقاء تابعون لدولة أخرى.
إذا ذهبنا إلى أبعد من تحرى الخلفيات، فإننا سنجد أن الحساسية السودانية إزاء النظرة المصرية التقليدية حاضرة فى الذاكرة. وسنجد أيضا أن المواقف إزاء سد النهضة لها حضورها أيضا وفهمت أن إرسال حكومة السودان لبعض القوات للمشاركة فى «عاصفة الحزم» باليمن سبب حرجا لمصر وعتابا سعوديا مكتوما، كما أننا لا نستطيع أن نستبعد امتعاض القاهرة من مواقف الإسلاميين السودانيين الذين تعاطفوا مع حكم الإخوان ولايزال لبعضهم تأثير على حكومة الخرطوم.
هذه التباينات فى المواقف طبيعية ومفهومة وواردة فى علاقة أى دولتين، حتى إذا لم يكونا شقيقتين. لكن ما ليس مفهوما أن يتم التعتيم على الخلافات حتى تترك لكى تستفحل وتستعصى بحيث تؤثر سلبا على وشائج ومصالح الشعبين، فى حين أنه بأى منظور تاريخى أو جغرافى أو استراتيجى فإن خلافات بين مصر والسودان لا ينبغى لها أن تتحول إلى أزمة بأى حال. وحين يحدث ذلك فإنه سيعد فشلا لأولى الأمر فى البلدين يستحقون لسببه اللوم والعتاب من الشعبين اللذين نشأنا وتربينا على أنهما «إيد واحدة».
(المصدر: الشروق المصرية 2015-11-25)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews