ساعات خطرة فى بروكسل!
الخوف من عمل ارهابي يسكن قلوب الأوروبيين بعد الهجمات المركبة التي وقعت في باريس الأسبوع الماضي وراح ضحيتها العشرات من المواطنين الفرنسيين والأجانب. العواصم الكبري باتت تنتظر دورها في جدول شن الهجمات حسب تهديدات داعش، ولم يعد مستغربا أن يتفرس الناس وجوه ركاب المواصلات العامة أو السائرين إلي جوارهم في طرقات المناطق التاريخية أو السياحية بعد أن برهنت وحشية عملية باريس أن الخطر يأتي من حيث لا يحتسب أحد.
تصادف اقامتي، خلال زيارة سريعة، في أكثر الأحياء عراقة وأناقة في العاصمة البلجيكية وهي المنطقة التي انتشر فيها الجيش بكثافة بعد رفع مستوي التحذير في اليومين الماضيين ضمن اجراءات كثيرة تزيد من قبضة الدولة علي الأمن في البلاد ورغبة في وقف تدفق المتطرفين من بروكسل الي دول أوروبية أخري مثلما حدث في حالة فرنسا. السائحون مستمرون في التوافد علي المدينة وبواكير احتفالات الكريسماس وكرات الكريستال الأبيض التي تزين الشوارع بدأت في الظهور في نفس توقيت تصاعد الخطر باحتمال وقوع أعمال ارهابية. السمة المميزة للوضع هناك أن المواطن يثق في قدرة حكومته علي التصدي، فلا تجد أصواتا زاعقة أو «تشنجات» هنا أو هناك لأنه في ساعات الخطر صوت العقل يرتفع في المجتمعات الناضجة ولا يترك مساحة للجنون أو اثارة الجماهير دون وعي حيث الثقة أكبر في وجود مؤسسات قادرة علي المحاسبة وتحديد المسئوليات.
في الليلة التي رفعت فيها بلجيكا مؤشر التحذير الي الدرجة القصوي، كنت أتجول في قلب بروكسل برفقة صديق بلجيكي يشغل منصبا رفيعا في الاتحاد الأوروبي ورأيت العشرات من رجال العمليات الخاصة بالجيش يقومون بحماية المنشآت الحيوية وأماكن الترفيه والسهر خشية عملية مماثلة لمجزرة باريس، فيما كان وسط بروكسل يحتفل بنزول الدفعات الأولي من «زينة الكريسماس» الي الميادين الكبري والشوارع الرئيسية. من المشاهد المعتادة اليوم أن تري أفراد الجيش بزي رجال العمليات الخاصة والبنادق المتطورة يتجولون بين رواد الشوارع الرئيسية دون أن يثير الأمر استغرابا أو نفوراً من المواطنين وبعضهم يتحدث بود شديد اليهم ربما رغبة في الشعور بالأمان في مواجهة المجهول.
الأحياء التي يقطنها المواطنون «البلجيك» من السكان الأصليين تخشي كارثة جديدة، والأحياء التي يقطنها عرب أو علي سبيل الدقة «مغاربة» يسكن أهلها الخوف من الاجراءات الأمنية التي ستبدأ السلطات في تطبيقها. في مقر الاتحاد الأوروبي، يقف السياسيون علي مقربة من عتبات الحقيقة والتي تقول إن السياسات الغربية في العقود الأخيرة قد صنعت وحوشاً ضارية وقد كبرت الوحوش وقررت أن تقلق مضاجع الكبار باستخدام أدوات محلية صرفة ولدت وتربت وعاشت في الأحياء الفقيرة والمتوسطة بالقارة الأوروبية. قال صديقي البلجيكي أن الأوساط الأمنية والسياسية تحلل الأسباب التي دفعت «أباعود» العقل المدبر لهجمات باريس، الي الانخراط في أعمال ارهابية تهلك أرواح المئات. وأوضح أن والد «أباعود» قام بشراء محل جزارة له في العام الماضي وهو ما يعني ان الرجل كان ميسور الحال ولم يكن معدماًً حتي ينحرف بتفكيره الي تبني الأفكار التي تقود الي ارتكاب مذبحة.
في تفسير ما يجري من تجنيد لأبناء الجالية العربية في تنظيمات متطرفة، قال لي مهاجر مصري يعيش علي حدود بلجيكا مع ألمانيا أن دولة الرفاهية التي صنعتها أوروبا في الأعوام الخمسين الماضية مسئولة بشكل غير مباشر عن الوضع الراهن، فهي سمحت لجيل من المهاجرين بالحصول علي اعانات بطالة مجزية تغنيهم عن البحث عن فرص عمل مقارنة بما تكبده جيل الأباء عندما وصل الي تلك البلاد للمساعدة في عملية البناء في الستينيات من القرن العشرين، ومع السماح بخلق مجتمعات مغلقة للمهاجرين، وبعض التصرفات العنصرية ضدهم نجحت تنظيمات متطرفة في ملء مساحات الفراغ في عقل هؤلاء الصبية في حواري بروكسل وربما في ضواحي باريس أيضا- فضلا عن عوامل أخري عديدة. تفسير المهاجر المصري يبدو منطقيا بالنظر لحداثة سن منفذي هجمات فرنسا وخروجهم من أحياء تتسم بوجود كثافة سكانية مرتفعة لمواطنين من أصول عربية. ويربط شريحة الشباب المشار اليها والمتشددون الذين يقومون بتجنيدهم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي أفكارا متقاربة عن المجتمعات الغربية وكيفية هزيمتها من الداخل وهي حالة من التواصل «المدمر» التي لم تلتفت الحكومات الغربية اليها الا بعد وصول الخطر الي أبوابها!.
(المصدر: الأهرام 2015-11-23)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews