ليبيا: فوضى الآراء حول حكومة الوفاق

قرابة نصف قرن من التجريف والجفاف الثقافي والجمود السياسي، وحكم الاستبداد، عاشتها النخب الليبية والشعب بكامله، كان لا بد أن تؤدي إلى هذا المشهد الذي يكاد يكون مشهدا سرياليا كابوسيا بجدارة.
وسط خرائب الفوضى والاحتراب، والخصومات السياسية والعسكرية، والصراعات العشائرية والمناطقية والأيديولوجية التي أوصلت ليبيا إلى حالة من التشظي، هناك الآن خمس حكومات تتنازع السلطة فوق ترابها، هناك حكومة في طبرق، وحكومة تنافسها في طرابلس، وهناك حكومة ترفع الأعلام الداعشية السوداء في عاصمة المنطقة الوسطى سرت، وهناك حكومة في الجنوب يؤلفها الطوارق، ويحاربها التبو الذين ينافسونهم بحكومة تنتمي إليهم، وهناك وسطاء من أُصلاء فزّان، يدخلون لفض النزاع بين الحكومتيْن ويعتمدون لأنفسهم كيانا ثالثا يحميهم من الصراعات التي حولهم، وهناك فوق هؤلاء وأولئك، حكومات سرية مافيوزية، إحداها تدير تهريب السلاح، وتدوير 20 مليون قطعة منه موجودة خارج أيدي السلطات الشرعية، وحكومة أخرى تتاجر بقوارب الموت وتدير الهجرة غير الشرعية عبر الشواطئ الليبية، وهناك حكومة سرية مافيوزية ثالثة مكونة من عصابات تهريب المخدرات وسلع الكونتراباندا.

ووسط هذه اللوحة السريالية الحافلة بالعبث والجريمة واللامعقول، تلوح بارقة أمل للإصلاح وإنهاء الفوضى بعد عام من التفاوض والحوار تقوده الأمم المتحدة عن طريق بعثتها في ليبيا، برئاسة الدبلوماسي برناردينو ليون، وتصل مجموعات الحوار الليبية التي مثلت كل أطراف الصراع في البلاد، وتعددت فيه المسارات العسكرية والسياسية والأمنية والقبلية ومؤسسات المجتمع المدني وفرق الحكم المحلي، إلى وثيقة للوفاق تتضمن مجلس رئاسة لحكومة الوحدة الوطنية، قوامها رئيس مجلس وزراء وثلاثة نواب ووزيرين تمت تسميتهم بعد أخذ رأي كل أطراف الصراع والمكونات، على أن تترك لهذه اللجنة مهمة استكمال تأليف الحكومة التي تنهي تعدد الحكومات التي تتنازع السلطة فوق التراب الليبي، وتعود إلى ممارسة عملها في العاصمة المخطوفة التي تسيطر عليها الميليشيات، وتبسط نفوذها على أنحاء البلاد، لتضع بذلك حدا للتشظي الذي يعاني منه الحكم في الوقت الراهن، وتحقق تنفيذ القانون، بدعم دولي ومناصرة من كل قوى العالم، التي تعهّدت بتقديم عونها لهذه الحكومة في تطهير البلاد من العصابات المافيوزية، وعناصر الإرهاب الداعشي، وحماية حدود البلاد المنتهكة من أهل التهريب والمتاجرين بالهجرة غير الشرعية، ووضع حد للانهيار الأمني، وانتشار جرائم القتل والخطف والسطو المسلح على الممتلكات الخاصة والعامة، وتسليح الجيش الليبي وتمكينه من قهر الإرهاب، وهو إجماع دولي لا سابق له حول مخرجات الحوار الليبي، ولم يتوفر لأي قضية من القضايا المماثلة في المنطقة العربية في الأزمنة الراهنة، ومناصرة لهذه الحكومة تأتي من شرق العالم وغربه ومن كل القوى الإقليمية على اختلاف سياساتها.

لم يكن غريبا على مثل هذه الاتفاق أن يلقى احتجاجا من إحدى المدن، لأن أهلها نظروا إليه نظرة جهوية، لا تغلب النظرة الوطنية، ولكنّ هناك حراكا سياسيا وطنيا كان حاضرا في هذه المفاوضات، يستطيع شرح هذه المخرجات لأهل البلاد، بل يمكن أن يتولى اقتراح إضافات ترضي هذا الجانب أو ذاك، طالما أن هناك أسسا ثابتة هي التي يقوم عليها الاتفاق، فلا بأس، مثلا، من إضافة نائب لرئيس الوزراء رابع أو خامس، لتأمين حالة من الرضا لدى مناطق ليبيا كلها، كذلك فإن هناك فيما بعد عشرين أو ثلاثين حقيبة وزارية، يمكن توزيعها بطريقة المحاصصة أو بأي طريقة تضمن إسكات النعرات الجهوية والقبلية والعشائرية، فهي في النهاية ليست حكومة استمرار ورسم سياسات، وإنما حكومة أزمة، وحكومة مؤقتة لإنهاء حالة الاحتراب والفوضى، وضمان الاستقرار والأمن لإجراء الاستفتاء على الدستور وانتخابات برلمانية ورئاسية، تعبر بالبلاد من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة تأسيس الدولة.

ثلاث خطوات إذا تم إنجازها في عام واحد، ضمن الشعب بناء دولته ومباشرة حياته الطبيعية والاستفادة من موارد بلاده، والانتقال بهم من العوز والتشرد، إلى الاستقرار والأمان المعيشي والاقتصادي، ويمكن الإسراع بإنجاز الانتخابات خلال ستة أشهر فقط، كما اقترح إبراهيم الدباشي المندوب الليبي في الأمم المتحدة، فيكون هذا هو كل عمر الحكومة التي ينشب حولها الآن الخلاف. وسيتواصل الصراع الذي صار عمره الآن خمسة أعوام، إلى أمد غير محدود، إذا لم يعرف أهل الحراك السياسي قيمة الفرصة التاريخية المتاحة، وبقوا مثل سكان بيزنطة عند حصار الجيش العثماني لها بقيادة محمد الفاتح، يناقشون جنس الملائكة هل هم ذكور أو إناث، كما يناقش أهل الحراك السياسي الليبي هل هي المسودة الرابعة أو الثالثة التي تحظى بالقبول، حتى يتم تهديم الأسوار وغزو المدينة، وهم في ضلالهم سادرون، وفي فوضى الآراء والأفكار والنقاشات البيزنطية غارقون.

(المصدر: العرب 2015-10-22)