الجنيه والدولار والحلقة المفرغة
حلقة جديدة من مسلسل تراجع قيمة الجنيه المصرى أمام قيمة الدولار. مسلسل تتوالى حلقاته المكررة منذ عقود. تتفاوت التفاصيل.. تتنوع الأسباب المباشرة التى تشعل فتيل الأزمة.. ولكن يظل السبب الجوهرى واحدا لا يتغير.. ندرة أو نقص مواردنا من النقد الأجنبى عن الوفاء باحتياجاتنا. السياسات الاقتصادية المطبقة منذ منتصف السبعينيات أسفرت عن اعتمادنا المطلق على الخارج. مصر مستورد صاف للمواد الغذائية والمنتجات الصناعية ومستلزمات الإنتاج والمنتجات البترولية والآلات والمعدات ووسائل النقل.
المشكلة الأكبر هى أن حصيلة صادراتنا السلعية تغطى أقل من 40% من قيمة وارداتنا السلعية. كل موارد قناة السويس والسياحة وتحويلات أبنائنا العاملين فى الخارج وكل مانقدمه للعالم الخارجى من خدمات لا يكفى لتغيير الوضع. إذن مواردنا لا تكفى لتغطية احتياجاتنا. الفرق نعوضه بالاقتراض والمساعدات وودائع الدول العربية الشقيقة وتدفقات الاستثمارات الأجنبية التى نبذل الغالى والنفيس لاجتذابها، فإذا لم يكف كل ذلك نسدد الفرق من مدخراتنا بالنقد الأجنبى أى بالسحب من احتياطياتنا الدولية.
البيانات الخاصة بمعاملاتنا مع العالم الخارجى تقول إن العجز فى حساب السلع والخدمات والتحويلات خلال السنة المالية المنتهية فى يونيو 2015 قد بلغ نحو 12.2 مليار دولار. بيانات البنك المركزى تقول إن احتياطياتنا الدولية تراجعت لتقتصر على 16.3 مليار دولار وإن 15 مليارا منها يتمثل فى ودائع لدول عربية علينا أن نقوم بردها فى تاريخ ما خلال السنوات القليلة المقبلة.
فى كل حلقة من حلقات أزمة النقد الأجنبى يتسع الفارق بين سعر الدولار فى السوق السوداء وبين سعره الرسمى فى الجهاز المصرفي. وفى كل مرة يتدخل البنك المركزى بحزمة من الإجراءات لضخ كميات إضافية من النقد الأجنبى فى البنوك وتقديم سعر جاذب لحائزى النقد الأجنبى كى يقوموا ببيعه للجهاز المصرفي، ومحاولة ضرب منافذ وآليات عمل السوق السوداء. فى كل مرة ينتهى الأمر بتراجع جديد فى قيمة الجنيه المصرى أوبانخفاض فى احتياطيات النقد الأجنبي، أو كلاهما.
فى كل مرة ينتهى الأمر باشتعال أسعار السلع فى السوق المحلية، فأيا ما كان حجم التخفيض فى قيمة الجنيه المصرى النتيجة دوما هى ارتفاع أسعار كل السلع المستوردة أضعافا مضاعفة لأن الاحتكارات المحلية تسارع إلى الشكوى من ارتفاع سعر الدولار وترفع الأسعار دون حدود. الأزمة الحالية أشعل فتيلها بشكل مباشر التصريحات غير المسئولة التى أدلى بها وزير الاستثمار خلال الشهر الماضى بأن تخفيض قيمة الجنيه المصرى لم يعد اختياريا، فترتب على ذلك أن كل من لديه عملات أجنبية امتنع عن بيعها انتظارا للحصول على مقابل أكبر، وكل مستورد يحتاج إلى نقد أجنبى هرول إلى الشراء قبل أن يرتفع السعر، و كل من يرغب فى تحقيق ربح سريع تدافع لشراء النقد الأجنبى بهدف إعادة بيعه بسعر أعلي. باختصار، أدى هذا التصريح غير المسئول إلى حجب النقد الأجنبى عن البنوك من ناحية وزيادة الطلب عليه من ناحية أخري، وبالتالى زيادة الضغوط على سعر صرف الجنيه المصري، وارتفاع سعر الدولار فى السوق السوداء.
ثم ازدادت الأزمة اشتعالا بعد إعلان انخفاض الاحتياطيات الدولية بنحو 1.8 مليار دولار خلال شهر سبتمبر نتيجة سداد الالتزامات المستحقة عن مديونيات مصر الخارجية. تحركات البنك المركزى والحكومة للتعامل مع الأزمة تشير إلى استمرار التركيز على علاج مظاهر المشكلة دون مواجهة أسبابها. البنك المركزى يقدم حزمة إجراءاته المعتادة، والحكومة تتفاوض على قروض ميسرة من البنك الدولي. وتظل مشكلة اعتمادنا على الخارج وقصور جهازنا الإنتاجى عن الوفاء باحتياجاتنا كما هى.
كل تجاربنا السابقة البعيدة والقريبة تؤكد أن تخفيض قيمة الجنيه لا يؤدى بذاته إلى تحقيق التوازن بين المعروض من النقد الأجنبى والطلب عليه. فقد توالت التخفيضات لقيمة الجنيه المصرى منذ بداية العام الحالى ومع ذلك تراجعت حصيلة الصادرات، وزادت الواردات، وتزايد العجز فى ميزان التجارة. التعامل مع قضية النقد الأجنبى فى مصر يجب أن يسير فى مستويين، أحدهما يتعلق بالأجل القصير ومواجهة الأزمة الحالية، والثانى يتعلق بالمدى المتوسط وحل جذور المشكلة. مواجهة الأزمة تتطلب فرض قيود على الاستيراد.
نحن فى حالة حرب وفى ظروف اقتصادية صعبة، ومادام أن مواردنا من النقد الأجنبى محدودة فيجب أن نحدد أولويات لاستخدامها. يجب وقف استيراد كل السلع والخدمات التى لا تشكل حاجة ضرورية للقاعدة العريضة من الشعب، سواء فى مجال السلع الغذائية أو الملابس الجاهزة أو السيارات أو الأجهزة الالكترونية أو المفروشات والموبيليا وغيرها، وسواء تم ذلك من خلال قرارات إدارية بحظر الاستيراد أو بتطبيق ضريبة جمركية مانعة، بالغة الارتفاع. يجب وقف استيراد السلع ذات البديل المحلي، مع وضع حد أقصى لهامش ربحها وتفعيل جهاز مكافحة الاحتكار وجهاز حماية المستهلك، ضمانا لحق المواطن المصرى فى السعر والجودة وحتى لا يترك نهبا للاحتكارات المحلية. أما على المدى المتوسط فيجب البدء من الآن لحل جذور المشكلة وإعادة هيكلة الاقتصاد المصرى لمصلحة قطاعى الزراعة والصناعة. يجب استعادة القدرة على انتاج قدر معتبر من السلع والخدمات التى نحتاجها، والقدرة على انتاج وتصدير سلع وخدمات تتمتع بالتنافسية وتوفر لنا النقد الأجنبى اللازم لدفع فاتورة ما نحتاج لاستيراده. باختصار شديد.. إما تنظيم الاستيراد وإعادة بناء قدراتنا الإنتاجية، وإما الاستمرار فى الحلقة المفرغة نفسها !
(المصدر: الاهرام 2015-10-18)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews