من أزمة النفايات إلى أزمة السلطة
بات الحراك الشعبي الذي تضجّ به العاصمة اللبنانية بيروت يشكل مصدر قلق للقوى المسيطرة في لبنان. فبعد أن بدأ على شكل احتجاج تقوده مجموعة من الناشطين المدنيين تحت عنوان “طلعت ريحتكم”، والذين ينتمون، عموما، إلى منظمات المجتمع المدني، أخذ يتحول إلى حراك شعبي انضم إليه الآلاف من المحتجين. وباتت حملة “طلعت ريحتكم” التي باشرت التحركات، والتي اتخذت طابعا مدنيا غير مسيّس ومستقلا عن الأحزاب السياسية والانتماءات الفئوية، باتت واحدة من مجموعة “حملات” غلب عليها الطابع اليساري والعلماني الديمقراطي، ما شكل اختراقا واضحا للاصطفافات التي عانى منها المجتمع اللبناني طوال أكثر من عشر سنوات.
ما لا شك فيه أن احتقانا كبيرا جعل من احتجاج متواضع يتعلق بأزمة النفايات ينفتح على حراك شعبي واسع، وخصوصا أن السلطات لم تعر اهتماما لمطالب المحتجين، ولا لأزمة خنقت العاصمة ومناطق عديدة أخرى بروائح جبال النفايات المتحللة في الساحات والشوارع في عز الصيف اللاهب، بل حاولت ابتزاز المواطنين لجعلهم يتحرقون لإزالة هذه الكارثة الصحية مهما كان الثمن!
لكن أعينا كثيرة مفتوحة على ما جنته شركة سوكلين خلال سنوات احتكارها لهذه الخدمة من أرباح وما وزعته على المتنفذين من مغانم. ولم تكن وحدها روائح النفايات ما يزكم أنوف المواطنين. فماذا بإمكان المواطن أن يفعل عندما يغلق على نفسه الأبواب والنوافذ في عز الصيف تحاشيا للروائح والجراثيم المنبعثة من أكوام النفايات، إذا كان التيار الكهربائي مقطوعا؟ وماذا يمكنه أن يشعر حين تنقطع المياه عن بيته؟
وهكذا توسع الحراك وتوسعت أيضا مطالبه وآفاقه. فمن النفايات إلى الكهرباء إلى المياه، مرورا بالفساد المتغلغل في المؤسسات ونهب الأملاك العامة والمال العام، وصولا إلى شرعية الممسكين بمؤسسات السلطة. فالبرلمان الذي تستند إليه هذه الشرعية والذي انتخب سنة 2009 وفقا لأسوأ قانون انتخابي عرفه لبنان باعتراف الفائزين قبل غيرهم، قام بالتمديد لنفسه مرتيْن دون الرجوع إلى الهيئات الناخبة. وأكبر كذبة لا يمكن أن تنطلي على أحد هي تعذّر إجراء الانتخابات لأسباب أمنية. وكل الناس يدركون ذلك. من هنا بدأت الأصوات تعلو معتبرة أن من في مواقع القرار ليسوا إلا غاصبي سلطة ومنتحلي صفة. وهم إلى جانب ذلك، يستغلون السلطة لأغراضهم بما يتعارض، كليا، ومصالح عموم المواطنين.
وإذا كنا ندرك أن سقف هذا الحراك الشعبي، أقله في المدى المنظور، يقف عند حدود إحراج السلطة وفضح فساد القوى المسيطرة وتعريتها أمام المواطنين كافة، فإننا ندرك، وتلك القوى نفسها تدرك أيضا، أن انفضاض المواطنين وتسربهم خارج الاصطفافات التي زجتهم فيها تلك القوى، وخروجهم من خنادق الانقسامات الطائفية والمذهبية التي اصطنعتها لهم، ليتلاقوا في ساحات الاحتجاج، يمثل التهديد الأكبر لسيطرتها حتى قبل أن يرتفع سقف الاحتجاج من المطلبي إلى السياسي.
من هنا كان الهجوم الشرس على الحراك الشعبي حتى قبل أن يتشكل في أدوات تنظم قواه وتحدد مشروعه وبرنامجه. لتكون هذه المواجهة إعلامية وسياسية وأمنية وأيديولوجية، ومن كل جانب وبمختلف أسلحة التشويش والتشويه، وأيضا التخويف والتهديد بانفجار الوضع الأمني والتهويل بالوضع الاقتصادي. ولكن الكل يعرف، مسبقا، أن الوضع الأمني لم يتهدد ولن يتهدد إلا على أيدي تلك القوى المسيطرة نفسها وما تمتلك من ميليشيات وأدوات تخريب، وأن الوضع الاقتصادي الذي يعيشه المواطنون ليس إلا صناعة نفس الجهات المسيطرة، وهو السبب الحقيقي لهذا الحراك.
يتحدثون عن الوضع الأمني، وما يثير سخرية الجميع أن الخطة الأمنية التي أعلنت ونفذت منذ شهور في البقاع إلا أنها تركت الساحة مشرعة لأخطر تجار المخدرات والممنوعات، نوح زعيتر، ليعلن انضمامه لاحقا لـ”الحشد الشعبي” لحزب الله، ثم ليقوم بجولة تفقدية على مقاتلي الحزب في القلمون! كما يمكن سؤال وزير الداخلية المهموم بالأمن عن خلايا “سرايا المقاومة” التي يزرعها حزب الله في المناطق التي لا تخضع لسيطرته المباشرة والتي تختطف المعارضين السوريين وتسلمهم للنظام الأسدي، وتمارس التعديات على الناس، وقد أخذت تنمو كالفطر.
يتحدثون عن حرصهم على الأملاك العامة، والأملاك العامة نهب للمتنفذين على طول الشواطئ وفي المدن والأرياف. وماذا عن الشوارع التي شطرت أو حتى سدت بالحواجز الإسمنتية والعوائق الحديدية أمام قصور النافذين في بيروت وفي غير بيروت؟
كل هذا الدّغَل المحتقن يؤلّب الناس وربما كانوا ينتظرون من يبدأ الخطوة الأولى كي يتحركوا. صحيح أن الظروف الداخلية وفي طليعتها وجود حزب الله المدجج تسليحيا وأيديولوجيا، وظروف المنطقة بشكل عام ومآلات الوضع السوري بشكل خاص، تضيق على التوقعات المرتجاة من الحراك الشعبي المستمر، ولكن هذا الحراك يؤسس بما ينجزه وبما يراكمه لواقع مختلف يصح فيه القول: إن ما بعده لن يكون كما قبله.
فقوى السلطة قد وضعت في موقف حرج، إما أن تلبي المطالب الأساسية للحراك، وهي إضافة إلى حل أزمة النفايات محاسبة وزير الداخلية وكل من يظهره التحقيق مسؤولا عن قمع الاحتجاجات، وهذا يفتح على حرية الاحتجاج والتظاهر؛ وإقرار قانون انتخابي يحقق عدالة وصحة التمثيل ويساوي بين المواطنين، وهذا يفتح على إمكانية التغيير السياسي في البلد، وإما مواجهة احتمال تطور الحراك وانتقاله من كونه حراكا شعبيا احتجاجيا إلى انقسام أفقي يحقق فرزا نهائيا بين قوى السلطة وبين الطبقات المسحوقة، أي غالبية المواطنين الساحقة، وهذا مفتاح التغيير الشامل.
(المصدر: العرب 2015-09-23)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews